الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تأمّلات قصيّة في ديوان العرب

تأمّلات قصيّة في ديوان العرب
1 يونيو 2023 01:18

د. عزالدين عناية

بقدر حاجتنا إلى مراجَعات ذاتية، نحن نحتاج إلى مراجِعين قادمين من «أقصى المدينة»، ملمّين بلساننا، وعلى دراية بأحوالنا، لقراءة نثرنا وشعرنا. وتلك مهمّة اضطلع بها باقتدار الإيطالي سيموني سيبيليو، المنتمي إلى جيل المستعربين الجدد، في تناول المنتوج الشعري العربي، في كتاب صادر بالإيطالية هو عبارة عن فهرس مفصّل. جاء الكتاب بعنوان: «الشعر العربي بوجهيه الحديث والمعاصر» (معهد الشرق بروما 2022)، وعماد صاحبه في ذلك، التحليل النقدي من منظور غربي وبأدوات غربية، وذلك على مستوى شمولي في النظر والتقييم، وعلى مستوى انتقاء العيّنات.
حرص المؤلف في عمله على الإحاطة بخريطة الشعر العربي الواسعة والمتشعّبة، مبرِّراً اختياره بما يرنو إلى تقديمه للقارئ الإيطالي من قراءة. وذلك من خلال عرض خلاصة تحليلية ميسّرة للشعر العربي في الفترتين الحديثة والمعاصرة. وضمن هذا الهدف الرئيس يستحضر المؤلف الجدل الدائر حول الشعر وفي الشعر، وما طرأ على القصيدة العربية عامة من أحوال وأطوار. ويشير إلى أنّ الحاجة إلى مصنّف من هذا النوع، جاءت أيضاً جراء غياب خلاصة جامعة في الإيطالية، وإن توافّرت النصوص والدواوين المترجَمة لشعراء فرادى. ويشير المؤلف إلى أنّ ثمة نقصاً في وجود مصنّف «عضوي» يجمع بين الفترتين -الحديثة والمعاصرة- ويربط بينهما، ولذا جاء الكتاب مسعى لتجاوز ذلك النقص.
تحولات الشعر العربي
استعاد المنهج التحليلي المعتمَد أهمّ الثيمات التي حضرت في الشعر العربي. ليغرق الكاتب أحياناً، ودون وعي، في تقسيم غربي، يتوزع بين الكلاسيكي والحديث، والحال أن الكلاسيكي بمدلوله العربي هو النهضوي. ولكن هذا لا يقلّل من أهمية الكتاب في ما يثيره من قضايا حول تحولات الشعر العربي، وأنّ الشاعر العربي ما عاد لسان الجمهور، بل غدت اللغة مأواه الحصين. مفسّراً ذلك بأن الخيبات السياسية والاجتماعية والحضارية، قد أعادت الشاعر العربي إلى تعريف دوره وتحديد مهمّته. ففي مرحلة أولى تماهى الشاعر مع عمقه الحضاري، وذهب إلى جذور الأشياء بالعودة إلى التراث الفينيقي والكنعاني والفرعوني، لتتراجع تلك المغامرة ويقنع الشاعر باللّغة وطناً وهاجساً له.
ولو تمعّنا فحوى الكتاب، نلحظ أن القسم الأول (71 صفحة) قد حام تحديداً حول عرض مضامين الشعر ومفاهيمه الكبرى، مع توضيح مساراته على مدى القرن. حاول فيها المؤلف تتبّعَ خصوصيات «الحديث» و«المعاصر» في الشأن. وفي خضمّ ذلك يشير سيبيليو إلى أن مسألة التحقيب في الشعر العربي خلال الفترة المدروسة، تأتي لديه بمنأى عن المنظور الغربي وتقسيماته المعهودة للحديث والمعاصر. يحاول الباحث سيبيليو أن يستمدّ التحقيب المعتمَد في الكتاب من داخل الانشغالات الشعرية العربية، متتبّعاً تحولات القصيدة، بما انطبعت فيها من خاصيات «الحديث» و«التجديدي» و«المعاصر» و«الحداثي» إلى مصاف بلوغ «ما بعد الحداثي»، وهي نعوت ومعايير وتحقيبات سائلة ومائعة، على حدّ قوله.
إذ يرى المؤلف أنّ الحدود بين الحديث والمعاصر مضلّلة، وإن أطلّت ملامح الشعر العربي الحديث منذ عصر النهضة. وفي هذا المسار المتداخل سعى الباحث سيبيليو إلى رسم خريطة توضّح تلك المراحل بقصد بيان ذلك التداخل. فمع انطلاق دعوات التجديد وظهور تيارات النقد المبكرة، بدأت تتشكّل ملامح الشعر الحديث إلى أن طغت. لتلي ذلك فترة تحول فاصلة بين السابق واللاحق، سادت بين الأربعينيات والخمسينيات من القرن الفائت، بدت في عمومها مسكونة بالهاجسين الرمزي والسريالي. أسهمت تلك المرحلة الوسطى، وفق الكاتب، في إنضاج ملامح الشعر المعاصر الذي ترافق مع ظهور الشعر الحرّ. وبحسب ما اتّضح له، وبعيداً عن مركزية التحقيب الغربي، فإنّ المعاصر ينطلق مع عقدي الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، نظراً إلى دخول ملامح مستحدَثة على القصيدة العربية غير معهودة.

التجليات الشعرية
وبعد أن تركّز الانشغال في القسم الأول على متابعة المفاهيم، أو لنقل المواضيع الرئيسة، التي راودت الشاعر العربي، هذا من جانب، وعلى الإنتاجات التي أُنتجت إبان فترة «النهضة»، بالمفهوم العربي، وانعكاساتها على حركة الشعر، من جانب آخر. انشغل القسم الثاني من الكتاب بالتجليات الشعرية، وبالنصوص، وبالخاصيات التي رافقت القصيدة العربية في مختلف حللها ومساراتها. مستنداً الباحث إلى تجارب عدّة برزت كأصوات تجديدية، أو لنقل جارّة وراءها جحافل متنوعة من الشعراء، وذلك مع النصف الأول من القرن العشرين، من الكلاسيكية الجديدة، مروراً بالرومنطيقية، وإلى غاية الرمزية. في الأثناء يُبرز سيبيليو الانتقال السلس الحاصل من الحديث إلى المعاصر، وإن استعرضَ الجدل الذي رافق هذا التطور. وهو ما انشغل به الفصل الرابع من القسم الثاني من الكتاب. ويرى الكاتب أن هذا التحول قد أتى بمثابة القطيعة الواعية داخل حركة الشعر العربي، عبر ما عُرف بثورة الشعر الحرّ، وهو ما طفحت به مجلتا «الآداب» و«شعر».
يُعتبَر الكتاب في اللغة الإيطالية متفرّداً في موضوعه وفي شموله. صحيح لم تخلُ المكتبة الإيطالية من مؤلفات تناولت الشعر العربي بوجهيه الحديث والمعاصر، ولكنها جاءت في معظمها مقتصرة على شاعر أو شاعرة، أو مخصَّصة لجهة محدّدة بمعالجة قضية من قضايا الشعر، على غرار مؤلف وسيم دهمش «المغرب.. الشعر العربي اليوم»، روما (2002)، وكتاب فتحي مقبول «الإنتاج الشعري في الأردن»، راغوزا (1992). لكن كتاب سيبيليو، في الأوساط الثقافية الإيطالية، يبقى محاولة متميزة لِما فيه من توسّع في دراسة المنتوج الشعري العربي، ولما تلوح من فحواه من معالجة رصينة في تناول قضايا أدبية بعيداً عن التحيز الغربي. فما يُلحّ عليه الباحث، في تناول الشعر العربي، وبخلاف دراسات غربية أخرى في الشأن، هو رفض القول بالتأثر، أو النقل، أو التقليد للتجارب الشعرية الغربية، وإنما يطرح الباحث المسألة ضمن معطى التفاعل والتثاقف بين التجارب.
ما يميز الكاتب سيموني سيبيليو وهو الإلمام المزدوج بالفضاءين الشعريين، العربي والغربي، وهو ما خوّل له الكتابة بأريحية في الموضوع، ناهيك عن درايته بالمصطلح الموظَّف في عمله. ثمة قدرة لدى الكاتب في إغراء القارئ غير المولع بالشعر للاطلاع على كتابه، وهو ما يمكن أن نطلق عليه مصالَحة من لا يعنيهم الشعر مع الشعر، عبْر ما يثيره من قضايا سياسية وفكرية وتاريخية متنوعة على صلة بالشعر.
إلمام جيد
العنصر المهمّ في كتاب سيبيليو، وهو الإلمام الجيد بخريطة الشعر العربي المعاصر، مع هذا ثمة ملاحظة بشأن غياب أسماء لامعة من هذه الخريطة، بشكل يدعو للتساؤل، وهو ما لا يقلّل من قيمة الكتاب.
وفي ملمح لافت بين زملائه من المهتمّين بدراسات العالم العربي، يتميز مؤلّف «الشعر العربي بوجهيه الحديث والمعاصر» بإلمام متين بـ«العربية»، وهو ما خوّل له الاطلاع المباشر على النصوص التي اشتغل عليها في كتابه. وكما يلوح من المصادر والمراجع المعتمَدة، ثمة استعادة موفّقة ومتابَعة جيدة من قِبل المؤلف للإنتاجات العربية. ليس الاطلاع على تلك المؤلفات عابراً أو خاطفاً، بل يكشف عن قدرة على سبر أغوارها وإدراك فحواها، وهو ما يُحسَب للمؤلف. فمنذ ما يزيد على العقدين درّستُ سيموني سيبيليو في جامعة «الأورينتالي» في نابولي، وقد لمست لديه، منذ ذلك العهد، تميزاً عن أقرانه في الشغف بالعربية وبالدراسات العربية. لم يخب ظني فيه وأنا أطالع كتابه القيّم، وهذه من النِّعم السارة التي تثلج الصدر في المهجر.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©