الثلاثاء 28 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الاستثمار الثقافي.. ارتفاع لأسهم السعادة في سوق الحياة

الاستثمار الثقافي.. ارتفاع لأسهم السعادة في سوق الحياة
16 فبراير 2023 01:49

د. عزالدين عناية

من الجلي أنّ الاستثمار في الثقافة، في أيّ مجتمع من المجتمعات، هو استثمار غير خاضع لحسابات المردودية المباشرة، ولا تنطبق عليه معايير المضاربة في السوق المالية، أو مقاييس عائدات الصناعة والزراعة والتجارة، وفي ما شابهها من قطاعات الاقتصاد الحيوية. لما تطبعه من خاصيات معنوية لا تقاس بمقاييس الأرقام والعائدات التي نقيس بها أنشطتنا ومعاملاتنا، وإنما يخضع إلى معايير ذات خصوصية مغايرة، ومرابيح ذات نوعية شفّافة، يُقدّر مقاديرها علماء التربية والاجتماع والمصلحون والعارفون بأحوال المجتمعات وتعكّراتها. ولذا يتراخى الخبراء والمحللون التقليديون، الغارقون في تسطيح الظواهر، في التحمّس للثقافة أو الانتصار لأهلها وصنّاعها ومنتجيها، ويسقطونها من اهتماماتهم بوصفها قِطاع هدر للطاقة ونزيفاً للميزانية، وإن أدرجوها ضمن اهتماماتهم فبحسابات الريع والمصاريف والمداخيل والمردودية لا غير!
والواقع أن المجتمع لا يكون مدنياً، والإنسان لا يكون مواطناً، سوى بتلك الخاصية الثقافية، لما تضفيه من طابع التحضر على المجتمعات وخاصيات التعقل على الأفراد. فأن تستثمر جماعة بشرية في الثقافة، يعني أن تخوض عمليات إنماء في الذوق والنباهة والشاعرية والتحضر والتمدن والرقي، وفي المقابل أن تحاصر البلادة والرعونة والغلظة والهمجية والحمق، وهي المقومات التي يقوم عليها اقتصاد الثقافة الذي غالباً ما يتفلّت عن القياس والحصر، لأن المعايير ليست كمّية ولا عددية وإنما هي قِيَمية وجمالية بامتياز.

الرأسمال الثقافي
وطبقاً لهذا الضرب من الاستثمار المعنوي، يشكّل الرأسمال الثقافي أحد الرساميل المهمّة ضمن عناصر الثروة الوطنية للمجتمعات الحية، التي تحرص على إيلاء هذا الرأسمال العناية الفائقة من حيث إنماؤه والحفاظ عليه والعمل على توظيفه وإيداعه ذخراً للأجيال القادمة. إذ يختزل الرأسمال الثقافي هوية الشعب بمختلف أبعادها المادية والمعنوية، ويشكل دعامة مستدامة للنهوض. ومن هذا الجانب يمثّل عنصر الاستدامة الثقافية مبدأ مهمّاً لما ينطوي عليه من روح تشاركية تؤمن بحقّ سائر الأجيال، الحاضرة واللاحقة، في الموروث الثقافي. إذ غالباً ما تعبّر عناصر الثقافة العميقة عن ملامح الهوية الجماعية، وبموجب تلك السمة تحوز تقديراً واسعاً بين مختلف الشرائح لما تجد فيها من تعبير عن روحها. ولهذا تحوّل الشعوب موروثها الثقافي -من فرط الاعتزاز به وتقدير قيمته- إلى علامات سيميائية عميقة الدلالة، ويظهر ذلك أحياناً في أيقونات ومجسّمات وفي أهازيج وأناشيد. وبناءً على هذا يسعى كثير من الشعوب إلى الحفاظ على عوائدها وتقاليدها وأعرافها، في المأكل والمشرب والملبس، وتوريثها للأجيال اللاحقة بوصفها السمة والعلامة المميزة لنمط العيش وفن الحياة لديها. وإن تكن الاستدامة الثقافية، في جانب واسع منها، تعوّل على الذاكرة الجماعية بوصفها الخزان الحاوي لمختلف التجارب في شتى المجالات للجماعة البشرية، فهي لا تكتفي باستعادة تلك المخزونات شفهياً، كونها جارية على الألسن ومستحضَرة في العيش، بل تلجأ إلى تدوينها وحفظها والاحتفاء بها والعمل على استعراضها واستحضارها في المناسبات والمواسم.

عناصر الهوية
وعلى هذا الأساس أملت الاستدامة الثقافية ما يشبه الواجب الملقى على عاتق كل جيل في الحفاظ على عناصر الهوية، التي غالباً ما تتخذ ملمحاً ثقافياً وأشكالاً رمزية. وهذا الحفاظ يعني مواصلة الذات الجماعية حضورها الفاعل في التاريخ إيماناً بأن لها رسالة ودوراً. ووفق هذا المنظور تعني الاستدامة النظر للأشياء ضمن أبعاد متكاملة ماضية وراهنة وقادمة.
فليست الاستدامة، في مجال الثقافة، مفهوماً مجرّداً وإنما هي مفهوم واقعي مدرك بالعقل السديد والحس النبيل. فهي جودة تعارض الابتذال، وهي إبداع يعارض التكرار، وهي تألق يعارض التماثل. ولا يمكن بلوغ تلك المراقي سوى بانتهاج نهج الوعي بالثقافة والتعامل معها كمعطى راق، يتسنّم إبداعات العقل البشري. ولذا اقتضى الحال ترشيد التعامل مع الرأسمال الثقافي لغرض تفادي استنزاف ذلك الرصيد.
ولا يمكن بلوغ الاستدامة الثقافية في غياب الوعي بالرأسمال الثقافي، والمراد بالوعي هو التعامل الرصين المبني على منظور واقعي. إذ لا يكفي أن نجلّ التراث ونقدّر عناصر الثقافة، أو تراودنا مشاعر الغبطة والبهجة تجاه ذلك الرصيد حتى تحصل الاستدامة، ولكن أن تحتضن ذلك الرأسمال حاضنة علمية تؤمن بأن عناصر الثقافة برمتها تشكل السند اللازم في أي عملية تطور أو تقدم، وأن غياب ذلك مدعاة للجمود، إن لم نقل التراجع والانتكاس.
ولا غرو أن الاستدامة في المجال الثقافي تستدعي مفهوماً آخر، ألا وهو اقتصاد المعرفة، لما بينهما من وشائج متينة. إذ ضمن التحولات الجارية التي يشهدها عالمنا الراهن، وما يفرضه من تشابك بين حقول عدة، أضحت مفاهيم الثقافة والمعرفة والوعي والإدراك من المفاهيم العملية ذات الأبعاد التوظيفية والإجرائية. إذ بعدما صيغت فروقات في التصنيف، اعتمدت الفصل بين العلوم العملية والعلوم النظرية، جرى التنبه إلى التشابك بين الحقول، وإلى عمق الصلة بين القطاعات التي ظننّاها متباعدة، فعصرنا يعيش التشابك بين الحقول والتكامل بين القطاعات.

التعويل على المعرفة 
أضحى بيّناً أن تطوير العملية الاقتصادية، وما يتخلّلها من ابتكار وتخطيط ورهانات واكتساب خبرات وحسن تصرف وغزو أسواق جديدة، لا يتأتّى سوى بالتعويل على المعرفة التي هي في النهاية حسن التدبير والتصرف النابعان من تراكم الخبرة والوعي. فالمعرفة تمثّل الزاد الإجرائي الذي يتزوّد به المرء في رحلة الوجود، وهي خلاصة تجارب ورصيد لابدّ منه يصحب المرء في حضوره في الكون ويهديه إلى الفلاح. وكلّما تقدّمت تلك المعرفة وشاعت بين الناس، بثّت زاداً لا غنى عنه للاجتماع بوجه عام. وبالمثل لا يمكن اكتساب تلك المعرفة، وتنمية تلك الخبرة، ما لم تتهيأ للمجموعة البشرية البيئة الحاضنة والإرادة المحفّزة لذلك الغرض. وهو ما يجعل المعارف في حدّ ذاتها ذخراً ضرورياً للتطور والنهوض والإبداع. وكلّما راكمت الجماعات والشعوب هذا الرصيد، زادت حظوظ الإقلاع والفعل لديها. ولذلك ترى الشعوب المتقدّمة تولي محاضن المعارف، من مدارس ومعاهد وجامعات ومراكز أبحاث، الرعاية اللازمة والعناية الفائقة لأنها الأطر الضامنة لتحقيق تلك النقلة وبلوغ المطامح المنشودة.
فما من شك أنّ العملية الاقتصادية، مجرّدة من أبعادها المعرفية، هي كالفعل من دون غاية، وهي كالإنجاز من دون تخطيط. ولذلك تحرص التجارب الناجحة على الربط بين ثنائية الاقتصاد والمعرفة، وهو ما يلحّ عليه كثير من المتخصّصين في المجال سعياً إلى ردم الهوة بين قطاعين يحسبهما الغافل للوهلة الأولى متباعدين، جرّاء كون أحدهما يخضع لمنطق الحسابات والآخر لمنطق التصورات. فقد أضحت المعرفة في الاقتصاد ما بعد الصناعي مكمّلاً ضرورياً لعديد القطاعات، السياحية والتجارية والصناعية والمالية، لِما تضفيه من قدرات تسويقية وتجديدية، ولِما تشكله من دعم للترابط بين النسيج الاجتماعي ومختلف مصادر الاقتصاد. وإيماناً بتعذّر إرساء اقتصاد عملي وناجح في غياب معرفة نظرية داعمة، تُشكّل المعرفة الخريطة اللازمة التي تتقدّم لتوجه العملية الاقتصادية وتصقلها تجنّباً لهدر الطاقات واستنزاف الجهود. إذ هناك سوق معرفية موازية للسوق الاقتصادية بصدد التجذر والتطور، وما نشهده هو عمليات اندماج وتداخل بين المجالين.
فأن تستثمر الدول في اقتصاد المعرفة وفي الرساميل الرمزية، مثل الفنون والآداب والثقافة والإبداع، التي من عائداتها البهجة والمتعة والغبطة والمرح، هو بحق ارتفاع لأسهم السعادة في سوق الحياة، ومقاومة للانكماش والركود والكساد الذي قد ينتاب الأفراد والمجتمعات. ومختلف هذه التحولات يضعنا أمام طروحات جديدة وتجارب مستحدثة في النظر إلى حراك المجتمع.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©