الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الشعر رسالة في العالم

الشعر رسالة في العالم
19 يناير 2023 01:39

أحمد حميدة
بقلم: رؤوف صدّيق

في سنة 1872، أي منذ ما يقارب المئة وخمسين سنة، صدر بمدينة لايبزيخ الألمانيّة كتاب لأستاذ في علم الفيلولوجيا لم تتجاوز سنّه يومذاك الثّماني وعشرين سنة: إنّه كتاب «مولد التّراجيديا». وكان الكاتب قد افتتح بهذا النصّ مسيرة حياة.. فلسفيّة، سيكون لها بالغ الأثر في الحياة الفكريّة خلال القرن التّاسع عشر. ويتعلّق الأمر هنا بالمفكّر الاستثنائيّ فريدريش نيتشه! ففي هذا العمل الذي أنجزه أيّام شبابه، انبرى ذلك المفكّر الألمانيّ مدافعاً عن مواقف وعن أشكال من الثّقافة الجرمانيّة التي سيجافيها في تاريخ لاحق: تشاؤم شوبنهاور وتأثير ظاهرة موسيقى فاغنر. على أنّ مواضيع أخرى ستظلّ بلا تغيير، ليكون تأثيرها فاعلاً خارج حدود فكره الشّخصيّ، مثل مسألة التّعارض بين الأبّولونيّ والدّيونيسوسيّ. وتلك فكرة مهمة تلامس ما شكّل بلا ريب أحد وجوه الإبداع اليونانيّ في المجال الفنّي. ولو كان علينا اختزال تلك الفكرة في كلمتين، لقلنا إنّها تقرّ بأنّ اليونانيّين القدامى، كانوا لا يكتفون بإضفاء ظاهر جميل لما يمثّل الجانب المألوف في حياتهم الجماعيّة، إذ كانوا يمضون بجسارة نحو الجانب الأكثر قتامة وإرباكاً في الطّبيعة البشريّة ليجعلوه يحتلّ مكانة أثيرة في وجودهم. ولا يحيل تجسيد الجمال لديهم بهذا المعنى، إلى وضعيّة ينبغي حمايتها من كلّ محاولات التشنيع، لأنّ الجميل يحتلّ بطبعه مكانة متشامخة. 
والحال أنّ التّراجيديا والدّور الأساسي الذي كان للموسيقى في أداء الجوق المرافق، تستجيب بالفعل لقدرة الفنّ اليوناني على الانفتاح على كلّ ما هو متمرّد على الجمال، لأنّه مجال ما يمكن نعته بـ«الشّنيع»، أي ذاك الذي سيزرع فيه بيرق الجمال كعلامة على نصر يكون بحاجة دوماً إلى الاستئناف. وكانت تغريدة رئيس الجوق، في هذا المسرح اليونانيّ، صيحة فزع أمام الهوّة التي تترصّد الإنسان، وصرخة مواجهة تحمل وعداً بترويضها.

نقد شامل
ونحن نعلم جيّداً ما سيقدم عليه نيتشه بعد هذا الاكتشاف: ما سينجرّ عنه ذلك من نقد شامل للحضارة الأوروبيّة باعتبار القطيعة التي أحدثتها في ذلك التّوازن الثّمين، بين التعلّق بالصّياغة الأنيقة -كما كان يُحتفى بها في الفنون التّشكيليّة على وجه الخصوص- ولكن أيضاً في الشّعر الغنائي -مجال أبولّون- ثمّ التشبّث بذلك الجزء المتوحّش والمتمرّد من وجودنا، الذي لا ينفكّ يذكّرنا به الشّعر التراجيديّ، الذي ينتمي لمجال ديونيسوس. ويؤكّد نيتشه أنّه منذ «يوربيديس»، كان أثر دعاة الأخلاق قد بدأ بالنّفاذ في مجال سرد الأسطورة. ثمّ كان سقراط ونزعته «التّثقيفيّة»، وأفلاطون وعالم الأفكار الذي سيهيّئ بدوره لمجالات أخرى دانية من التفكير الروحي. ونمضي هكذا من تراجع أمام تجربة «الرّعب» إلى فكرة يسمّيها فيلسوفنا بالـ«التّعزية الميتافيزيقيّة»، تعزية ستلغي تماماً حقيقة الهاوية!

زمن التّراجيديّات الكبرى
واليونان زمن التّراجيديّات العظيمة لكل من أسخيلوس وسوفوكليس كانت تحمل نظرة عن العالم قوامها الإحساس بالتّفاخر على الأمم الأخرى، ليس بدافع الاعتقاد العبثي المتماهي مع ذلك الغلوّ، وإنّما وفق رسالة روحية كانت تقبل بتحمّلها على نحو صريح، والتي هي تحديداً تعزيز الجمال في الكون وفي المجتمع. ومع ذلك، لم تصبح ذلك البلد الذي سيغيّر الوعد بالتفوّق إلى مشروع هيمنة على بقيّة الأمم، كما سيكون الأمر بعد ذلك مع الإسكندر الكبير. بل يمكننا القول إنّها كانت تستهجن مثل ذلك المشروع. فكان التوسّع الإمبراطوري بالنّسبة لها يهمّ الجانب البربري أكثر من الجانب الحضاري!

أفعال بدل المراحل
غير أنّ كلّ شيء كان قد تغيّر مع بروز الإمبراطوريّة وبداية المرحلة الهيلّينيّة. فجأة، غدت مصادر اللّغة، التي وظّفت إلى غاية ذلك التّاريخ للاحتفاء بالمعنى المضمّن في الأسطورة، والذي كان ممجّداً في الشّعر الغنائي وفي جهارة دندنته.. نابضاً، لتكون مجنّدة من أجل إشعاع يكون مفرطاً في مقاصده السّياسيّة. فلم يعد الأمر ليتعلّق في القصيدة الملحميّة الجديدة بغير الإنسان، دون اعتبار لسواه. وغدا الجميل، الذي ظلّ بريقه دائم الحضور في الأعمال الفنيّة، يؤدّي دور الذّريعة أو الحافز الذي يتمّ استدعاؤه لتأكيد جوانب التفوّق على الشّعوب الأخرى! وغدا الشّاعر هكذا مسخّراً للتغنّي بأمجاد الإمبراطورية. وحين كان ينغمر في عظمة يونان الأسلاف، كان يجعل نفسه مخترقاً بسحر الكلمة التي كانت تدفع شعراء الماضي إلى التنقّل من قرية إلى أخرى للإشادة بأمجاد الأبطال. وفي هذه الحالة أيضاً، كان الشّاعر يسقط رغماً عنه، في شراك الدّعاية لسلطة حريصة على إضفاء شرعيّة تاريخيّة على سياساتها.

وهْم تاريخي
وفي السّياق الجديد الذي خلّفه السّقوط المتسارع للنّموذج اليوناني، سيواصل الشّعر مسيرته. وللكتب التي تعرض المراحل الكرونولوجيّة لذلك السّقوط، من خلال التحوّلات ذات الأبعاد الجماليّة، ثمّة عادة سّيّئة تؤكّد على أنّ التطوّر الجدير بالملاحظة في مجال تقنيات النّظم، كما في أسلوب إلقاء الخطب، هو أشبه ما يكون بوهم تاريخيّ: صيغة جديدة تبرز، فتحلّ محلّها صيغة أخرى، وهكذا تمضي الحياة! لذا سيُدفع الشّاعر نحو وجهات أريد لموهبته أن تكون فيها نابعة من إرادة القوة، فلا يحافظ على توهّجه الشّعريّ إلاّ متى لجأ إلى التمرّد أو الخديعة!

عزلة شّاعر الحداثة
تاريخ الشّعر إذن هو تاريخ مسرحيّة دراميّة من عدّة فصول. إنّها مأساة الشّاعر الذي يواجه ظاهرة مزدوجة.. تقنيّة وسياسيّة، فيُحمل على مواجهة محاولات كبح صوته، إمّا على التمرّد أو على التّنازل. فكلّ ما يقال بخصوص تطوّر الشّعر بفرنسا مثلاً، عبر تعاقب الأجناس الأدبيّة، مثل شعر الغزل في العصر الوسيط، و«الشّعر الملعون» الذي افتتحه فرانسوا فيون، والشّعر الكلاسّيكيّ كما عرّفه ماليرب وبوالو، والشّعر الرّومنطيقيّ للامارتين وهوغو، والشعر الحديث لشعراء البرناسّ المنافحين عن فكرة «الفنّ من أجل الفنّ»، كما الشّعر الرّمزي لفرلين ومالاّرميه، والسيريالي لبروتون وآراغون.. إلخ، كلّ ذلك ظلّ متأثّراً داخليّاً بالصّدى الثّابت لمأساة بدئيّة. 

الشعر ومسرح العالم
وتحت فضاءات أخرى، ووفقاً للتقدّم التّقني ونشأة الإمبراطوريّات، نفسُ السّلك الأحمر للمأساة سيسرد قصّته، ليشذّ الفاعلون فيها في الحقيقة عن الأطر الصّارمة للتأريخ الأدبي، مقيمين بينهم حواراً سريّاً في ما وراء الأجيال والأوطان. ومثل ذلك الفاعل الممجّد من قبل نقّاد لا ترصد أعينهم الأشياء بكامل الوضوح، سيحظى الشّاعر في النّهاية بدور بالغ التّواضع على مسرح العالم رغم رنين أبياته التي لا تجارى.. فيما أنّ نظيره، صاحب الصّوت الرّصين والأقلّ وثوقاً، سيتكشّف وهو يحتلّ مكانة مركزيّة.. ومردّ ذلك، أنّه من هذا إلى ذاك، كان ثمّة اختلاف في درجة المقاومة، ولكن أيضاً اختلاف في تقدير الموارد المتنوّعة الخاصّة بفعل تلك المقاومة!

رموز ومَجازات
لأنّ الشّاعر.. حتّى وهو في حال الجنون، قد يكون بصدد الاحتيال، كي يحدُث ما يريده، وحتّى وإن وقع في اللاّمعقول وجلب إليه ازدراء ولامبالاة الجمهور العريض، فبإمكانه ابتداع رموز ومَجازات تكشف عن فظاعة نفيه، هذا النّفي الذي هو قدر كلّ شاعر وكلّ شعر. 
ولا نريد القول، ونحن نتحدّث بهذا المنطق إنّ الشعر الذي يتبنّى التيّارات السّائدة في التّاريخ، هو بالضّرورة شعر سخيف ومخاتل: فبإمكانه هو الآخر أيضاً التلاعب بالرّياح المتضادّة، وأن يعمل وهو يتظاهر باقتفاء أثرها، على زعزعتها بالقدر الذي يسمح بتغيير وجهتها. وكلّ يسعى إلى ذلك النّزال حسب ما أوتيه من ذكاء وفطنة! ولكن، قد لا يتأتّى ذلك بصورة منتظمة للكتّاب الجادّين ذوي التّآليف القويمة والبصيرة.

فوضى الإبداع
ولعلّ سبب إحساسنا بوجود حالة من الفوضى في مجال الإبداع الشّعري تعود إلى إحجامنا عن الارتداد إلى الوراء، وبالتّالي إلى تراجع إدراكنا الحسيّ بالأشياء. ولذا.. لا تتبدّى لنا المقاييس الجديدة لمكوّنات المشهد الشّعري وحدوده بكامل الوضوح، وذلك أمر ممكن! ولكن ما هو محسوم ولا يقبل الدّحض هو انهيار المدارس القديمة وتلاشي صدى شعاراتها. لقد غدا الشّاعر اليوم بالغ التوحّد، وأحياناً.. إلى درجة أنّه لم يعد ليدرك بأنّه شاعر. وغدت تجربة الكلمة معه على صلة وثيقة بالحبسة، كما يؤكّد على ذلك جاك ديريدا. وفي بحثه عن الكلمات، فثمّة في سيرة الشّاعر ما يشي بأنّه يتردّى في حالة مزرية قوامها الإحباط واليأس.

طبيب العالم
وفي الحقيقة أنّ الكتابة الشعرية قد تغيّرت من حيث طبيعتها. ففيما مضى كانت الكتابة تنهل من خزّان استعارات وفّرها الشّعر لتشكيل صوره الخاصّة عن الواقع. أمّا اليوم فقد انكفأت هذه الكتابة في لغة الخوارزميّات لإنتاج برامجها المعلوماتيّة، تاركة للشّعر مهمّة استرجاع مجال الكلمات ورنينها.
وبالمحصّلة.. يمكن القول، إن الإمبراطوريّات تعيش جميعها اليوم استحالة التّمادي في مغامراتها.. إنّنا لنصاب بالدّوار حقّاً، جرّاء تحوّلات متسارعة لم تعرفها البشريّة من قبل! ولكنّها تحوّلات وضعت حدّاً -لاختلال التّوازن- الذي بدأ منذ عهد اليونان القديم، واستطاع نيتشه الشابّ استشعاره استباقيّاً، بما أوتيه من حصافة فكريّة وتوقّد ذهنيّ.
وبقدر ما تتهاوى اليوم أجزاء كاملة من العالم القديم، تتأكّد على وجه أوضح ضرورة بناء عالم جديد لشفاء جراح الماضي ولمعالجة إنسانيّتنا التي طالما دمّرتها أحلام التفوّق والهيمنة. وللشّاعر في هذا السّياق دوره الذي ينبغي أن يتحمّله ويقوم به: فإلغاء التّباينات الجماليّة ليس سوى علامة على رجفة تنتابه أمام قرب حدث يتجاوز الأجناس والأعراق، وعلى إعلان لتعبئة لا تزال في طور النّشوء، حتّى يستجيب الشّعر لدعوة العصر الحديث، لأنّه بالنّسبة للمستقبل، سيظلّ الشّاعر هو طبيب العالم المصاب بالدّوار!

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©