الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

محمد عناني.. مشروع عابر للثقافات

محمد عناني
5 يناير 2023 00:35

إيهاب الملاح

- 1 -
بالتأكيد خسارة كبيرة وفادحة تلك التي مُنيت بها الثقافة العربية برحيل واحد من أبرز وأهم مثقفيها الموسوعيين في القرن الأخير، شيخ المترجمين المصريين والعرب الأستاذ الدكتور محمد عناني (1939-2023)، العالم والأكاديمي الجليل، والمترجم العلامة، والأديب المبدع، والشاعر والمسرحي والروائي، والناقد ومؤرخ الأدب، ومؤلف المعاجم وصائغ المصطلحات وواضع النظريات، وقلَّ بل ندر أن تجتمع كل هذه المواهب والخبرات والمعارف في شخص واحد مهما كان نبوغه وتفرده وعبقريته.
نعم، لقد فقدنا علماً غزيراً وشخصية ثقافية موسوعية حقيقية، فقدنا علماً بارزاً في العلوم الإنسانية عامة، والآداب والمعارف العربية والناطقة بالإنجليزية خاصة، وكان مجرد ذكر اسم محمد عناني يعني الجودة والثقة المطلقة في كل ما يترجمه إلى العربية (وقد ترجم ما يزيد على المائة عمل وهو رقم كبير ومذهل). اسم يعني تحقيق المعادلة الصعبة في مجال الترجمة: التمكن من اللغة المنقول إليها بالقدر ذاته الذي يتمكن به من اللغة المنقول منها.
ولاشك أن جل -إن لم يكن كل- من اتصل بالعلوم الإنسانية (وضمناً الأدب والنقد والفلسفة والتاريخ والنظرية النقدية الحديثة، وترجمة الكلاسيكيات، ومناهج النقد الحديثة والمصطلحات الأدبية والنقدية.. إلخ)، في ثقافتنا العربية، مَدين لمحمد عناني بمعرفة أو توجيه أو إفادة مباشرة لترجمة من ترجماته أو مقال من مقالاته أو اختيار نصي من اختياراتة ذات الذائقة الأدبية الرفيعة، ومَدين لإخلاصه ومعرفته ودأبه وجهده الوافر. مَدين لمعرفة جون ميلتون ونصه الكلاسيكي العظيم «الفردوس المفقود»، مَدين لأحلى وأجمل نصوص عبقري المسرح الشعري عبر العصور ويليام شكسبير، تلك المسرحيات التي ترجمها إلى عربية رائقة جزلة فخمة، مصحوبة بمقدماته الشارحة التفصيلية، ونظراته النقدية التحليلية، وشروحه وتعليقاته وحواشيه الدقيقة المفيدة، ودروسه العملية القيمة في الترجمة والنقل والإبداع من لغة إلى لغة.

- 2 -
ولا أنسى أبداً مقدمته الكاشفة البليغة لترجمة مسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير التي صدرت ترجمته العربية لها في مطالع تسعينيات القرن الماضي، وكانت فيما أتذكر المسرحية الرابعة أو الخامسة التي اضطلع بترجمتها لشكسبير ضمن مشروعه الطموح لترجمة مسرحياته كاملة إلى العربية، وهو المشروع الذي دعا إليه طه حسين، وكان يحلم باكتماله حتى وفاته في 1973.
وعلى مدار ثلاثين سنة ترجم الدكتور عناني أعمال شكسبير المسرحية الكاملة بالإضافة إلى «سونيتاته» الشعرية البديعة، ولم تفتر همته ولم يفتر حماسه أبداً في التصدي لإنجاز هذا المشروع الضخم، فكان يقدم لكل مسرحية (بل لكل عمل يترجمه، إبداعياً كان أم غير إبداعي، دراسة نقدية أو تاريخية أو سيرة مصطلح.. إلخ) بمقدمة عربية رفيعة لها وزنها العلمي وثقلها النقدي وعمقها المعرفي على السواء.
كانت هذه المقدمات تشي بعلم محمد عناني الوافر، وخاصة بالتراث العربي، وخبرته الهائلة في ترجمة النصوص الأدبية والنقدية. وكان يستهل مقدماته دائماً بالحديث عن منهجه في الترجمة، وتكمل كل حلقة الحلقة التي تسبقها وتمهد للحلقة التي تليها وتتواصل في الآن ذاته مع ما سبق أن كَتبه في كُتبه عن فن الترجمة بوجه عام، وعن الترجمة الاصطلاحية بوجه خاص، وذلك في لغة سلسة عذبة بالغة الدقة في الوقت نفسه، وعلى نحو يؤكد سلاسة اللغة المستخدمة التي تجعل من النص المُترجَم نصاً عربياً صحيحاً وسلساً وفصيحاً في الوقت نفسه.
والحق، كما يرصد الناقد الراحل جابر عصفور، أن ما يعرفه محمد عناني من المعارف اللغوية العربية التراثية والحديثة في وزن ما يعرفه من المعارف الإنجليزية، وخصوصاً علوم الترجمة بتشعباتها اللغوية، ودراسات الترجمة ومدارسها بوجه عام.

- 3 -
آمن محمد عناني بالترجمة فعلاً ثقافياً ومعرفياً وتاريخياً، يرتبط بالسياق العام للعلاقات بين المجتمعات والأمم، ويتأثر بها سلباً وإيجاباً، والمؤكد أن ما يسيطر على العالم المتقدم الذي نعيشه اليوم من رغبة في الحوار والتجدد هو المبرر المعقول لازدهار فعل «الترجمة» على نحو لم يسبق له مثيل قبل هذه الحقبة. ولا أدل على ذلك من الطفرة التي حققتها «دراسات الترجمة» في الجامعات والمعاهد البحثية العربية، وأظن أن الدور الريادي والتأصيلي الذي لعبه الدكتور محمد عناني في ذلك قد يوازي جهد مؤسسات وأكاديميات بأكملها.
ما يقرب من العشرين دراسة وكتاباً وترجمات قدمها المرحوم محمد عناني إلى الثقافة العربية، مكتبة كاملة من المعرفة المنهجية العميقة التي تغطي نشاط الترجمة نظرياً وتطبيقياً واتجاهات ومناهج وفي تداخلها مع العلوم والمعارف الإنسانية الأخرى.
لكن تظل ثلاثيته المرجعية التأسيسة التي صدرت عن (سلسلتيْ «أدبيات» و«لغويات»/ لونجمان للنشر) وهي «فن الترجمة»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق»، و«مرشد المترجم» من المصادر الأصيلة لكل مترجم أو مقبل على الترجمة أو ممارس لها أو مَن ينوي الانخراط في ممارستها أو أياً ما كانت الصلة التي تربطه بنشاط الترجمة في العموم.

- 4 -
سجل الدكتور محمد عناني سيرته الذاتية (واحات العمر/ واحات الغربة/ واحات مصرية/ حكايات الواحات) في واحدٍ من أرق وأبدع نصوص السيرة الذاتية التي عرفها أدبنا العربي المعاصر، يقول عنها صديق عمره ورفيقه في رحلتي التحصيل والترجمة ماهر البطوطي: «من أجمل وأشمل كتب السيرة، صدرت في أربعة أجزاء ثم جُمعت في مجلد واحد، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب»، وللأسف لم يُعد طبع هذا العمل السِّيري الفريد منذ 2002 وحتى وقتنا هذا.
وتؤرخ السيرة لحياة الدكتور عناني منذ الميلاد وتتوقف عند عام 2000 (مع استدراكات على الأجزاء الثلاثة الأولى صدرت في جزء رابع سنة 2002)، ومن الصعب في هذا الحيز استعراض تفاصيل تلك السيرة الحية لأنها من السيَر التي تقرأ ويستمتع بقراءتها لا بالحكاية عنها أو تلخيصها أو الاقتطاف منها.
وإن كان لا يفوتنا الإشارة إلى أن قارئ السيرة سيكتشف أدواراً جليلة أخرى لعناني غير الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، فهو من القلة المحترفة التي مارست أيضاً الفعل المعرفي العكسي، فقدم إلى اللغة الإنجليزية العشرات من روائع الأدب العربي، وإبداعاته القصصية والروائية والفكرية، على السواء.
وله كذلك كتاباته المُعتَمَدة باللغة الإنجليزية، كما ترجم مجموعة من مقالات نقدية عن نجيب محفوظ ومقالات في الأدب المقارن، فضلاً عن مختارات من شعر ما بعد الحداثة المصري، وترجماته الأخرى إلى اللغة الإنجليزية. وله مؤلفات علمية في الترجمة والنقد الأدبي، فضلاً عن أعماله العلمية التي أهَّلته لعدد كبير من الجوائز العربية والعالمية. 

- 5 -
كان آخر أعماله الكبرى العظيمة في مجال الترجمة الموسوعة المعرفية التي صدرت عن المركز القومي للترجمة في 2018 بعنوان «موسوعة الهرمنيوطيقا» في ثلاثة مجلدات ضخمة، وهي التي يقول عنها المرحوم الدكتور جابر عصفور، وعن مترجمها محمد عناني: والحق أن ترجمة محمد عناني لهذه الموسوعة عمل بالغ الأهمية ينبغي أن يُحتفى به كل الاحتفاء في ثقافتنا العربية، فمحمد عناني ليس مترجماً عادياً، وإنما هو شيخ المترجمين العرب بلا استثناء، فهو مترجم يندر أن يوجد مثله في ثقافتنا العربية المعاصرة. وقد سبق له أن ترجم نصوصاً مسرحية عديدة لشكسبير.. فضلاً عن ترجمته العظيمة الرائعة لجون ميلتون «الفردوس المفقود» وغيرها كأعمال إدوارد سعيد ابتداء من «تغطية الإسلام»، إلى «صورة المثقف» و«الاستشراق».
ويوضح المرحوم جابر عصفور في تعريفه بهذا الجهد الجبار أن مقدمة محمد عناني جاءت لتؤكد هذه المعرفة وتشير في الوقت نفسه إلى كتاباته السابقة (ومنها كتابه «تعريب المصطلح وترجمته في العلوم الإنسانية» 2015) أو كتاباته في ترجمة المصطلح بوجه عام، وبالإضافة إلى ذلك معرفته الوافية بعدد من المذاهب الفلسفية المتواشجة مع دراسات الهرمونيوطيقا بوجه خاص، وخصوصاً فلسفة الظواهر عند هوسرل أو هايدجر أو غيرهما من الفلاسفة الألمان الذين يعدون المؤسسين الجدد للهرمنيوطيقا الحديثة بمعانيها ومجالاتها المختلفة التي أضاف إليها غيرهم كالفرنسي بول ريكور (1913- 2005) والإيطالي ياني ڤاتيمو (1936- 2000).

- 6 -
بالتأكيد كان المرحوم محمد عناني مثقفاً فريداً، صاحب أدوار عظيمة وأيادٍ بيضاء على الثقافة المصرية والعربية والمعرفة الإنسانية عموماً، رجل صاحب تاريخ وعلم وعمل وإنجاز، فتحية لروح الدكتور محمد عناني المثقف والمترجم الكبير الذي قام ببناء هذه الجسور والمعابر المعرفية التي أثمرت إنجازاً فكريّاً مهماً في تاريخنا الثقافي المعاصر.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©