السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

آرثر رامبو.. الكائن النّيزكي قاسمنا المشترك

آرثر رامبو.. الكائن النّيزكي قاسمنا المشترك
8 سبتمبر 2022 01:28

أحمد حميدة

الكائن النّيزكي، الملاك المنبوذ، الرّومانسيّ الحالم، المراهق العبقريّ، المستكشف لأغوار اللّغة، السريّ حدّ التزهّد.. الفتى المتمرّد، العربيد الميتافيزيقيّ، المنتفض السيرّيالي.. بمثل هذا التلوّن لملمحه، غدا هذا الشّاعر «الملعون» منذ أمد، شاعراً مقدّساً. ونكون مخطئين لو قلنا إنّ فيكتور هوغو تقبّله ك«شكسبير طفل»، لأنّ رامبو في طور عطائه الأدبي، لم يحظ بأيّ شكل من أشكال التّأييد، ونادراً ما لقيت كتاباته طريقها إلى النّشر، فيما أنّ ذيوع صيته لم يتجاوز آنذاك الحلقة الضّيقة للأدباء والفنّانين.
بداية من ثمانينيات القرن التّاسع عشر، وبفضل جهود فِرْلاَنْ، بدأت أعماله تفشو بين النّاس، وكان رامبو قد تحوّل في تلك الأثناء إلى تاجر مترحّل في أفريقيا والجزيرة العربيّة، وبات رغماً عنه رائداً للحركة الرّمزيّة. بعد ذلك، تابع أقرباؤه وأسرته وأصدقاؤه وأحبّاؤه من الشّعراء، التّعريف بأعماله، فرأى فيه أراغون سنة 1946، «الضياء السّاطع الذي لا يضاهى»، قبل أن يسهب في وصفه قائلاً، إنّه «نجمة الرّاعي»، هذا الذي جدّد علاقتنا باللّغة.. ووهب للشّعراء أدوات للكتابة غير مسبوقة، فنحن الذين نكتب بشكل اعتياديّ، متناثرين ومتخاصمين أحياناً، يجمعنا لا محالة ذلك القاسم المشترك لأحلامنا، ذلك الفتى الأبديّ الذي لاذ بالصّمت.. أرثر رامبو».
وشيئاً فشيئاً، غدا هذا الصبيّ المعجزة في القرن العشرين، مرجعاً لا غنى عنه، مرجعاً راسخاً وأصيلاً. ولئن تم تطهيره من الهالة الكاثوليكيّة التي وشّحه بها بول كلوديل، فقد ظلّ رامبو محافظاً على انتمائه النّصرانيّ. بل إنّ الرّوائيّ الأميركيّ آرثر ميلّر كان قد شبّهه في «زمن القتلة» ب«جان دارك: «لقد كتب رامبو كلّ ما بات يجري أمام ناظرينا اليوم (..)، ألسنا بصدد معجزة حقيقيّة أمام مجيئه إلى الأرض؟».
إن كانت أعمال رامبو قد أربكت قواعد الكتابة، فإنّ الغموض الذي أحاط بصمته، وقطيعته الصّارمة والمفاجئة مع الأدب، لا تنفكّ تثير تساؤلات ملحاحة لدى قرّاءه المتيّمين به. فهل ثمّة وجهان لهذا الشّاعر؟ ثمّ..أيّ منطق وأيّة دوافع، تختفي وراء تلك المبادرة القاطعة التي لم يَشُبْها ندم، قرار الإقدام على رحيلٍ باتٍّ ونهائيّ. فهل نحتاج، كما ذهب إلى ذلك آلان بورير، إلى اِقتفاء أثر رامبو في ترحاله عبر فيافي الحبشة واليمن، كيما نمسك بخافية السرّ في أعماله؟

ما أضافه لي رامبو
بقلم: بيير ريفردي
بمناسبة مئويّة ولادة رامبو سنة 1954، جمعت «مجلّة أخبار الأدب» ما خصّه به عديد الشّعراء من كلمات احتفاء، كانت آيات إجلال وتكريم للشّاعر الذي كان، ومن بين هؤلاء، بيير ريفردي.
مديرا لمجلّة «شمال/جنوب» في العشريّة الأولى من القرن العشرين، وهي المجلّة التي ارتبط ظهورها بالحركة التّكعيبيّة وبدايات الحركة السّيرياليّة، كان بيير ريفردي حينها يسعى إلى استكشاف عالم القصيد النّثريّ. وإن لم يذهب هذا الأخير في إجلاله لرامبو حدّ التّقديس، فقد نظر إليه على أنّه «الشّعاع الأوّل من الضّياء المنسرب من تحت الباب»، «الحُمّى المُرشِّحة التي تصيب قارئه بلا هوادة»، والسّلف الذي بفضله «انقدحت شعلة الكتابة» بداخله:
(إنّي لأتساءل اليوم عن الوجهة التي كانت ستتّخذها كتابتي، لو لم تقع على رأسي وبيديّ أعمال رامبو، في لحظة كنت فيها محبطاً، ولا أدري أثناءها كيف أتخفّف من عبءٍ، لم أكن يومها لأدرك على النّحو الأفضل، حقيقته. ما كنت أراه الأكثر وضوحاً بداخلي، هو أنّ تلك الأعمال جاءت موغلة في الغموض، وأنّه لن يكون بوسعي التخلّص من ذلك العبء، إلاّ متى حلّ محلّه ضياء غير مُحْتَمَلٍ، ولكنّه قطعا ضياء غاية في الإبهار. ألفيت نفسي متخبّطا في ليل قاتم، مدلهمّ، ولا أداة مسعفة للانسحاب أو الإفلات، يهزّني توق جارف إلى ذلك الضّياء، إلى ذلك الإحساس الجسديّ والرّوحيّ بالحريّة، إلى تلك الحريّة التي يمنحنا إيّاها الضياء السّاطع في وضح النّهار.
لا شيء في ذلك قد يبدو حقيقاً بالانتباه، والأمر يتعلّق بإحساس قد ينتاب تقريباً كلّ أولئك الذين يشعرون بوخز تلك الرّغبة القاسية، رغبة الإفصاح بوسيلة ما، عن الغموض المستكنّ في سرّ الرّوح، أي ذلك الغموض الذي يظلّ دوما فوق كلّ وصف.
و فوق الوصف أيضاً هي تلك الصّعقة الضّوئيّة لعمل بدا لي من الوهلة الأولى أشدّ غموضاً من كلّ الغموض الذي كان يحتشد بداخلي.
حتّى تلك اللّحظة، كنت قد قرأت لا أكثر ولا أقلّ مما قرأه غيري، وخاصّة الرّوايات، التي كنت أتلمّس فيها صورا لحياة أكثر كثافة، تغذّي فيّ حِبكتها ميلي إلى الحلم، ولكن سرعان ما كنت أعرض عن سردها الخادع، وألوذ بقصّتي أنا. ولكن بمجرّد أن باشرت الكتابة بدوري، لا شيء ممّا كنت قد قرأته، بما في ذلك ما قرأته لكتّاب عظماء أثيرين لديّ، قد أفادني حقيقة. لم يكن ثمّة بين فنّ الكتابة، ورغبتي أنا في التوصّل إلى الكتابة، أيّة أداة وصل. ثمّ أعرضت عن الكتابة. وإذ عاودتّ الكتابة بعد ذلك، بل النّشر أيضا، كنت دائما أتراجع عمّا كنت كتبته، وينتابني إحساس بالنّدم، لأنّني لم أتوفّق في التخلّص من ذلك الهاجس بوسائل مرنة. والحال أنّني كنت لا أمتلك تلك الوسائل. فما أضافه لي رامبو، وما رجّني في أعماله، هو أنّه للمرّة الأولى والوحيدة، لم أتبيّن في تلك الأعمال، الوسائل الأدبيّة التي كانت تزخر بها. وذهبت مباشرة إلى جوهرها، لأظفر بها مع ذلك، في الظّلمة الأشدّ إبهاراً. إنّها لكلمات ناعمة، عذبة، مثل الحصى في سيل متدفّق، عقود نبات متعرّش مُحكَمة مثل قبضة اليد، أوشحة مفكوكة بالكامل، موهوبة للرّيح، لكأنّها الشّواطئ، أرض مستنفرة الحساسيّة، الوجنة المجوّفة للسّماء، التماع اللبّ للعين، وأمنية في حال التمزّق).

الهاتك لأستارالظّلمة
بقلم: لوي أراغون
لقد أدّى رامبو دوراً تأسيسيّاً بالنّسبة لآباء السّيرياليّة. «كنّا نحن، إن جاز القول، من الأوائل الذين استرشدوا بوميض رامبو، لتقديم وجها آخر للعالم»، هكذا تحدّث عنه أراغون. وفيما يلي مقال كتبه أراغون سنة 1918، يلمح فيه إلى ماكس جاكوب، الذي أنكر على رامبو أبوّته للقصيد النّثريّ، ثمّ.. مأخوذاً بغنائيّته، رأى في ديوان «إشراقات»، اِنبثاق عالم جديد ينأى عن كلّ الأجناس المتعارفة:
(لقد انتصب بملء قامته يوم انهزمنا، على أعتاب جمهوريّتنا الخاضعة لسلطة الحكّام. بالكاد أطلق بعض الصّيحات الحمراء، حتّى بتنا ننتظر منه معجزات أخرى، فإذا به وهو في سنّ العشرين، يلوذ بصمت رهيب. ولكن ما أهمّية ذلك، ونحن مدينون له بالحريّة، إذ بدّد هذا الفتى قيود الأوزان الشّعريّة ومنطقها الشّكليّ، فقوّض بذلك أوزان الفكر. (..).
ولتتذكّروا: ألم يكن هو الذي هتك أستار الظّلمة، ذلك الذي أخذكم من يدكم، و.. صاح فيكم «أنظروا.. إنّ كلّ هذا العالم لي..»، لقد كان مربّياً، علّمكم كيف تفكّرون وكيف تحلُمون، وخاصّة كيف تعيشون. لقد كان مثيراً للغبطة أنّى توجّه. قبله، كان النّاس يحتفظون بأعينهم مغلقة، أو راجفة أمام الضّياء، مذ انسحب شكسبير من بينهم: إنّه مُستعبَدُ مايكل أنجلو الذي كسر أغلاله، الفتى الرّقيق الذي أشرق وقرنُنَا في حال الترنّح، لقد علّم النّاس كيف يحدّقون في الشّمس !».
ذات صباح كئيب، فتحت ديوان «الإشراقات»، فإذا بالوجه المخادع للحياة يتوارى من أمامي ويختفي. كانت البحار كالسّمفونيات، تتصاعد أمواجها فوق المنازل، وللكون الخارج لتوّه من الطّوفان، كانت الأزهار تمدّ أعناقها مشرقة، متلألئة. عالم بكر، تتعقّد هندسته بأبعاد مستطرفة جديدة، وأيّ رياضيّ قد يضبط قواعد تلك الهندسة؟ منطقيّاً.. ألفيت نفسي مُخْتلَساً من دائرة الممكن، لأرى النّظريّات يوثق بعضها ببعض كالمحكوم عليهم بالمؤبّد، واللاّمعقول يغدو جوهريّاً، فيما كنت أنا أتلاعب بجموع جبريّة لا نهاية لها. ومفتاح السرّ، هو الرّقم المجهول لمعادلة لا حلّ لها. ولكنّه هو، الذي لا يزعجه تربيع الدّائرة، كان يرى المحال ممكناً، ويشيد على تلك الفرضيّة، بجباله وأنهاره وقصوره، المشهد السّاحر ل «سيرسيتو» الثّلوج العلويّة. ويسحبنا هذا الملاك الحقيقيّ، ليسلمنا إلى دوار عالم متعالٍ: فوداعاً أيّتها المقولات.. وها أنّ الزّمن ذاته غدا يرسم حِلْيتة الرائعة. وإذا بكياني، من وراء الحياة، قبل الولادة وقبل الممات، يتمدّد ويتعدّد، ولا أدري إن كان ذلك واقعاً أم وهماً.. كلّ شيء أضحى متعايشاً، ولا طاقة لي على الاختيار، وحدها نفحة كونيّة غدت تهبني الأزمنة والأمكنة. لا شيء ليطبق عليّ الآن ويشلّ حركتي، لقد غدوت أخيراً طليقاً، وإذا بي أتقافز فوق قوس الشّهب، وبجرأة أقتحم المجرّة !

لقد لا مس رامبو الأقصى  
بقلم: موريس بلنشو
في هذا المقال الذي صدر بمجلّة «نقد»، بمناسبة أوّل صدور لأعمال رامبو عن دار «لا بلياد» الشّهيرة، سنة 1946، عاد بلنشو إلى موضوع أثير لديه: صمت رامبو، ليتساءل، وعلى حدّ تعبير ستيفان ملاّرميه، عن سبب إقدام رامبو «على جراحة لاستئصال الشّعر، وهو حيّ يرزق»:
 (إنّه لمن المحتمل أنّنا لا نعرف عن رامبو أكثر ممّا كان رامبو يعرفه عن نفسه»، هذا ما يذكّرنا به بلنشو في بداية افتتاحيّته: فبعيداً عن كلّ التّفسيرات المنطقيّة، ما عسى تكون دلالة ذلك الصّمت المحيّر بالنّسبة للشّعر؟
لقد اتخذت سيرة رامبو أشكالاً عدّة: كتب هذا الأخير في البداية روائع كثيرة ومبهرة، وفيما كان يبدو قادراً على تقديم المزيد، توقّف تماماً عن الكتابة. وأن يكفّ المرء عن الكتابة بعد أن يكون قد قدّم الدّليل على علوّ منزلته ككاتب استثنائيّ، فإنّ ذلك ينطوي دون شكّ على سرّ محيّر. ويتأجّج السّؤال أكثر حين نكون قد علمنا بما كان ينتظره رامبو من الشّعر: ألا يقتصر على كتابة أعمال بديعة، وألاّ يستجيب في ذلك لمُثل جماليّة محدّدة، وإنّما أن يساعد الإنسان على المضيّ إلى مكان ما آخر، يغدو فيه أكثر اكتمالاً ممّا هو عليه حقيقة، أن يرى أبعد ممّا يرى ويتعرّف على ما ليس بوسعه معرفته، وعلى سبيل الاختصار، أن يجعل من الأدب تجربة تلامس الحياة برمّتها، والكينونة في أبعادها المطلقة. ووفقاً لهذا المعني، يغدو التخلّي عن الكتابة لا محالة أكثر معابة. فالشّاعر لا يتخلّى بذلك عن عمل عاديّ فحسب، أو حتّى عن عمل أثير لديه، وإنّما على فرصة متى استبانت وتمّت متابعتها، لا يمكن أن تنتهي دون استنزاف صاحبها، استنزافاً يكون أشدّ وطأة من الانتحار أو الجنون. وعلى قدر مهابتنا لهذا الإنسان المتعلّقة همّته بإدراك الأقصى، تكون قناعتنا بأنه يستحيل خذلان ذلك الجهد دون الاستسلام لسطوته، وأن نرى في تخلي رامبو عن الكتابة، بعيداً عن كونه خيانة للدّافع الذي ألهمه، كان قد مثّل على العكس من ذلك، اللّحظة الأسمى في حياته، تلك التي جعلته يتعالى ويلامس الذّرى السّامقة. هكذا.. مع رامبو، لا يتخطّى الشّعر فحسب مجال الأعمال الأدبيّة وما هو مدوّن، بل إنّه يغدو تجربة جوهريّة في الوجود، يضيف إليها غيابه، ويقيمها على رفضه.
لقد غدت هذه الرّؤية شائعة، ولعلّها فقدت قيمتها من فرط تكرراها. ونتناسى أنّه لا معنى لها ما لم ننظر إليها بكلّ التباساتها. فالقول بأنّ التّجربة التي مرّ بها رامبو زمن كتابته «الإشراقات» و«فصل في الجحيم»، هي التي قادته إلى الصّمت بقبرص، والتّهريب بالحرّار والتّواصل مع الجمعيّة الجغرافيّة، يعني أنّ الشّاعر حين قرّره القطع مع الشّعر، لم نَرَ نحن في ذاك غير براءته الظّاهرة، لأنّه حين تحوّل إلى مغامر، ومهرّب للأسلحة ومستكشف مبتدئ، كان بشكل ما آخر، وبأسلوب أكثر عمقا، يتابع نفس الخطّة، يتشوّف إلى نفس الغاية، ينشد نفس الإرباك، ونفس البحث عن المجهول، كما كان الأمر زمن توهّجه الشّعريّ. وعلى العكس من ذلك، قد نفترض أنّه حين هجر الشّعر، كان قد هجره بصورة نهائيّة، وأنّه بإمكاننا إرجاع ذلك إلى ما يكون قد صرّح به رامبو ذاته: «لابدّ لي أن أواري التّراب أوهامي وذكرياتي»(...). حينئذ لا يتبقّى لنا ما نقوله عن حياته الثّانية، لأنّ كلّ ما كان فيها غير مُرض، هو في ذات الوقت، علامة على أصالته ودليل على إخفاقاته، وكلّ ما كان فيها مبتذلاً، وأحياناً خسيساً، هو الذي لا يزال يؤثّر في مشاعرنا إلى اليوم، ويزيد من دهشتنا.
ليس بوسعنا القول إنّ صمت رامبو يضيف للشّعر مشروع تجاوزه، وذلك برفضه. فلو أقررنا بذلك، سيبدو لنا ذلك الصّمت مجرّد كوميديا بائسة(..)، ولو تجنّبنا قول ذلك، فلن يعود لقصّة رامبو معنى يذكر، لأنّه.. وعلى أيّة حال، أن يذهب المرء القادر على المغامرة إلى أبعد ممّا يتيسّر للآخرين، فإنّه سيغدو كما آلاف النّاس من أمثاله محبّاً للمال، قاصراً حياته على الهموم المباشرة للحياة، فما الذي يمكن أن نستخلصه من كلّ ذلك؟ أنّه ذات يوم، انتابه الخوف من المجهول، وسأم من«قدراته الخارقة»، وأحسّ بأنّه بات وضيعاً، منهكاً، مرعباً أمام تصميمه المدهش، وأمام مهمّة هي من الخطورة بمكان، مهمّة قد لا يجرؤ أيّ أحد على مواجهتها. ومن تراه سيثبت لنا بعد ذلك أن «رسالة الرّائي» كانت أكثر من حلم مراهقة؟
إنّ «الإشراقات» كما «الفصل في الجحيم»، قد تساعدنا على تصوّر أنّ تلك السّبيل تمّ طرقها فعلا، بالنّظر إلى أنّ رامبو حين كتبها، كان قد لامس الأقصى. كما تجاوز نظام الأشياء القابلة للنّقل والتّوصيل، ومع ذلك لم يغد المجهول أقرب منّا من ذي قبل. وما هو ثابت حقيقة، هو أنّ تلك النّجاحات الأدبيّة قد بلبلت حياة النّاس وجعلتهم يعملون على استلهامها. ولكن بالنّسبة لمشروع الرّائي، لا أحد بإمكانه أن يقرّر إن كان يمثّل نزعة إلى التّضليل، أو ترجمة عن إخفاق تامّ، أو خديعة مبهرجة، أم تجربة مذهلة حقّا.
وذلك اللاّيقين وما يولّده من حيرة، هو الذي يُكسب لغز رامبو مثل تلك السّطوة، لقد دفع هذا الشّاعر إلى الأبعد، الغرابة، التي تشكّل أساس وجوهر الفعل الشّعريّ. غرابة لن تفصح إفصاحاً كاملاً عن أسراره، مهما ازدادت معرفتنا به، ومهما تنوّعت وتعدّدت الوثائق التي قد تكشف لنا، في القادم من الأيّام، عن زوايا أخرى من حياته).

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©