الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الصالونات الأدبية.. فضاءات معرفية وإنسانية

من المجموعات القرائية لاستراحة السيدات (من المصدر)
11 أغسطس 2022 01:33

نوف الموسى 

أيّ قوةٍ تلك التي يمكن أن نمتلكها، عندما نقرر القبول بكل ما هو مختلف، ويكاد يكون نقيضاً، ونعيش في مواجهة مباشرة وحيّة مع أفكارنا ومعتقداتنا وأحكامنا المسبقة، وسؤال القبول هنا ليس المقصود به الموافقة أو التأييد، بل منح الآخر المساحة للتحرك والتعبير، ومحاولة لفهم الأشياء دونما جعلها مُغلفة، وتبيان ملامح جذورها كفكرة نشأت في عوالمنا، واتخذت من نفسها أشكالاً عديدة. وتبقى جمالية الحالة في أنك تبحث في تلك الأشكال المتباينة، عن شيء خفيّ فيها يشبه جزءاً رهيفاً فيك، يشعرك بمدى هشاشة الاختلاف أمام متانة حاجتك لهذا الآخر، القريب من إنسانيتك، وتكتشف كيف أن خلف كل تلك الاختلافات مرايا تعكس رغبتك في التطور، وبحثك عن انسجام يوازي المعادلة الكونية فيما يتعلق بالتعددية. ولا يمكن حدوث ذاك القبول، دونما تجربة واختبار ضمن فضاءات عامة، تفعل حضورنا ونسمح لأنفسنا من خلالها أن نجسد أصواتنا الخاصة في الحوارات، وننتظر اللحظة التي يرى فيها كل المشاركين في هذا الاحتفاء العام، مخاوفنا وهي تُفكك نفسها بروية، وسط بيئة آمنة، تسمح لها بإعادة تشكيل نفسها في الكثير من المرات، وفق المواقف والأحداث والآراء والقراءات الثقافية، ومنها جميعها نبحث بمنهجية الصالونات والمنتديات الأدبية، في كونها قادرة على أن تكون بديلاً فاعلاً للفضاءات العامة، تلقي بظلال تراكمية تجربتها المعرفية والفكرية على قدرة المجتمعات على الانفتاح وإحداث التوازن، وأنها وبصفة استثنائية كذلك تمثل نموذجاً للبيئة الآمنة لمناقشة الأفكار، دونما تهكم أو رفض أو إقصائية، ولكنها مساحة للسؤال وفق إيمان متجذر بأن لكل إنسان حقيقته الخاصة به، تتجلى عبر قراءات أدبية وكتب فلسفية وأفلام نوعية وأنشطة تعليمية وممارسة رفيعة لثقافة المنهج النقدي وترسيخ أسلوبه كطريقة علمية لـ«القبول» والقدرة على إدراك معنى أنه سيبقى هناك دائماً ما هو مختلف. 

  • عائشة سلطان
    عائشة سلطان

تقليل أثر الخوف
بمجرد الحديث مع الكاتبة عائشة سلطان، مؤسس صالون المنتدى الثقافي، بالتعاون مع ندوة الثقافة والعلوم بمدينة دبي، تبادر إلى الذهن فكرة أن تجاوز المتناقضات ما هو إلا تجاوز للتفكير، والذي نحتاجه بشكل ما لمعرفة كينونة الحب، فيما ذكرت هي البعد الإنساني لنشاط الصالونات الأدبية، الذي يعكس بطبيعته عمق المجتمعات، التي تعيش في الوقت الراهن تحدياً مع نفسها، وهو أن تحضرها وتقدمها قائم على فكرة قبول الاختلاف، وكل ما هو نقيض على المستوى الفكري لأشخاص وبيئات ثقافية يتشاركون الفضاء العام، فالقراءة تقدم هذا الاتساع في الرؤية، باعتبار أن الأدب يمثل أهم رافد في توصيل الصورة الإنسانية، فكما كان يقال قديماً إن التجارة في القرون الوسطى من أسباب التلاقح الحضاري بين شمال المتوسط والجنوب المتوسط، فإن الصالونات الأدبية تؤدي هذا الدور الحضاري من خلال الروايات والكتب، كأهم ناقل للمنظومة المجتمعية المحلية لكل بلد إلى العالم أجمع، وتابعت: «في الصالون الأدبي أنت تخرج من ضيق الدائرة التي تعيش فيها لوحدك، إلى اختبار حقيقي لنفسك وأعصابك واحتمالك من خلال النقاش، وفي المناقشات من المهم أن نعرف لماذا لم تعجبك هذه الرواية أو تلك، هل السبب هو الأسلوب، اللغة، سيرورة الحكاية؟ هل هناك فكرة معينة تصادمت معها، دعنا نفككها، هل هناك خوف من مواجهة الفكرة التي تناقض نشأتك وتربيتك، مع الوقت توضع الأمور على طاولة النقاش، ويقل أثر الخوف ومقاومة الفكرة، خاصةً بعد الإطلاع عليها من عدة زوايا مختلفة، هنا تماماً يحدث التحول». 

  • جانب من اللقاءات القرائية التابعة لـلمنتدى العربي للكتاب «اقرأ» «من المصدر»
    جانب من اللقاءات القرائية التابعة لـلمنتدى العربي للكتاب «اقرأ» «من المصدر»

واعتبرت الكاتبة عائشة سلطان، أن كل شخص يرى الأمور حسب عمره وتجربته وخبرته وقيمه، إلى جانب الطريقة التي تربى عليها، لذلك فإن الصالونات الأدبية عبر نقاشاتها الثقافية مدخل أساسي للحوارات المنفتحة على الآخر، وهذا فعلياً ما نفتقده بأننا لا ننتصر لأنفسنا بقدر ما أننا ننتصر للحقيقة، لذلك على الشخص أن يخرج من بيته ويقف في الفضاء العام، ويجرد نفسه، وهذا ينقلنا إلى أهم مكون لتطور أوروبا وهو «المنهج النقدي»، الحاضر في الفضاءات العامة من مثل الأندية والمقاهي والصالونات الأدبية. 
 من التجارب التي لا تنساها الكاتبة عائشة سلطان، حول أثر الصالونات الأدبية، عندما انضمت لها إحدى القارئات العربيات، وقولها إنه لولا مشاركتها بالصالون لم تكن لتفكر أن تقرأ الكتب التي تمت الإشارة إليها ومناقشتها في صالون المنتدى الثقافي، وتوضح سلطان، محور الاكتفاء الثقافي الذي تعيشه بعض المجتمعات العربية الزاخرة بالكتاب والروائيين والمسرحيين والموسيقيين، فهم يمتلكون حياة ثقافية حافلة، برموزها ومدارسها، وقد يقع المثقفون في مطب الاكتفاء بما لديهم، وأحياناً أن تكون محصوراً بثقافتك ولا تقرأ إلا عنها ومن خلالها، قد لا يكون بالضرورة انفتاحاً، بل قد يعني أيضاً ما يشبه الانغلاق على نفسك، وبالنسبة لها فإن أحد الأسباب التي ساهمت في تحقيق انفتاح أوسع في منطقتنا، هي أنه لا يوجد لدينا هذا الاكتفاء الثقافي، وربما لو كان لدينا هذا الاكتفاء لفعلنا نفس الشيء، إلا أنه أحياناً الحرمان من شيء هو بحد ذاته نعمة، وساهم في انفتاحنا على ثقافات الآخرين، وهو نهج تتبناه دول الخليج عموماً، ما يجعلنا نكون فخورين بكتابنا وتجربتنا الأدبية، ومنه فإن دور الصالونات الأدبية يتأتى من إتاحة هذه الفرصة لإحداث التنوع والإطلاع، واستدامة تواصلنا الإنساني، وجعلنا أكثر تقبلاً واستعداداً للنقاش على مستوى المجتمعات المحلية والعربية والعالمية. 

  •  رولا البنا
    رولا البنا

إنسانية المناقشة
«يتحول الكتاب إلى كائن حيّ، وهو ينتقل فيما بيننا».. هنا نتوقف قليلاً عند التجربة الشعورية لما وصفته رولا البنا المنسق العام لمبادرة «استراحة السيدات» ضمن مبادرات مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، حيث سردت فيها رولا كيف بدأت الاستراحة كأداة لتمكين صوت المرأة، فإنه بالنظر إلى نجاح دولة الإمارات في تمكين المرأة في العمل، فإنهم ارتأوا بأن هناك فرصة نوعية للمشاركة في توسيع التجربة المجتمعية في المنازل، والمساهمة في إسقاط الضوء على أثرها في عمق الحياة اليومية، من خلال فضاءات القراءة للأدب والفكر العربي، تجد فيها النساء محيطاً وعوالم قادرة على التفهم والتقبل، وأوضحت رولا البنا: «إن استراحة السيدات، التزمت بمسؤولية انفتاحها لمختلف فئات المجتمع، بعيداً عن النخبوية، بل تحتمل التنوع الذي بمقدوره أن يستوعب تلك الأصوات بتعدديتها وهي تطلعنا على وجهات نظرها، ونشعرها بجمالية أن يسمع صوتها، وهو أقل ما يمكن أن نهديه للأشخاص من حولنا، عبر فضاءاتنا العامة المشتركة، خاصةً عندما تطرح أموراً جدلية، فالمحك الفعلي هي الطريقة التي نتبادل فيها النقاش، وأن نسمح لأنفسنا بأن نُدهش بآراء الآخرين حتى وإن جاءت بسيطة وعفوية، وهذا الدور الجوهري الذي تلعبه الملتقيات الأدبية والأندية القرائية، في تكوين ذاكرة لتلك الصلات الإنسانية، وتقوية المقدرة على استشفاف طرق التفكير المختلفة لدى الأشخاص وتحديداً الأعضاء المنتسبين بعد سنوات متتالية من القراءات والنقاشات، وملاحظة مستوى تحولاتها وتطورها مع استدامة فعل اللقاء القرائي، الذي يعد بمثابة حماية متفردة للمجتمع الإنساني بكافة تجلياته الحضارية، فنحن ننظر لموضوع بعينه من خلال عدة أشخاص في الآن ذاته، أيّ في نفس اللحظة النقاشية، فلنا أن نتخيل أثر ذلك علينا ونحن نستمع لمئات الاحتمالات للفكرة الواحدة». 

  • لامع الكوراني
    لامع الكوراني

 تقبل الآخر
محور التجربة الإنسانية وتشكلاتها في الصالونات والأندية الأدبية، لا يزال أمراً يستحق الكثير من الدراسة والبحث في دولة الإمارات، والتفكير بما يمكن أن ينتج عن هذا التمازج لمختلف الثقافات والجنسيات، وهو ما أشار إليه لامع الكوراني مدير برنامج قراءات المسرح في المنتدى العربي للكتاب «اقرأ»، في بيانه أن مدينة دبي كمجتمع تمتلك مقومات التربة الخصبة لحالة الانفتاح وتقبل الآخر، يأتي فيها الشخص ويقرر العمل في شركة تتضمن أكثر من 10 جنسيات، ويعيش في مبنى يحتوي قرابة الـ40 جنسية، وللوهلة الأولى يراها البعض بأنها أمر غير اختياري، كونها تمثل طبيعة خاصة بالمدينة، ولكن ما يحدث بعدها على مستوى النشاط المجتمعي، واللقاءات القرائية، فهو بالتأكيد يعكس خيارات الأشخاص واهتماماتهم، ورغبتهم الذاتية في التفاعل الفكري والتباحث الثقافي مع المجتمع بكل تنوعاته، عبر الانضمام للصالونات الأدبية، تلك اللحظات المسائية والتجمعات بعد يوم عمل طويل، التي بمقدورها أن تحدث تحولاً بديعاً في عمق التجربة الإنسانية. 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©