الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

سلافوي جيجك.. فيلسوف الجائحة!

سلافوي جيجك
7 يوليو 2022 00:33

إميل أمين

لعل من الصعب على المرء أن يحيط في مساحة محدودة بأفكار وأعمال الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك، الذي يعتبر الأمهر -وربما الأخطر- ضمن فلاسفة أوروبا المعاصرين. ولعل من الظريف أن يطلق عليه تعبير «فيلسوف البوب»، أو«روك ستار» الفلسفة، انطلاقاً من كونه يجيد التعاطي مع وسائل الإعلام المعاصرة، ناهيك عن وسائط التواصل الاجتماعي.
وقد يحار المتابعون لفكر جيجك في فهم الطريقة التي ينتج بها أعماله، والتي تتسم بأمرين معاً، العمق وغزارة الإنتاج، والبعد مرة واحدة عن السطحية، فله أكثر من سبعين كتاباً، وقدرة غير طبيعية على مواكبة الأحداث الجسام، فقد أصدر كتابه الشهير «Pandemic» بعد أقل من ستة أشهر فقط من انتشار جائحة «كوفيد-19»، الأمر الذي دعا البعض للتساؤل: هل ثمة موضوع على الأرض لم يكن قمحاً لمطحنة جيجك الثقافية؟ ويمكن اعتبار الرجل فيلسوفاً، وعالم نفس، وعالم اجتماع، وهو في الوقت نفسه أستاذ جامعي، وزائر لكبريات الجامعات الدولية، وناقد ثقافي، وكاتب رأي صحفي، ويطول الحديث عن سيرته الذاتية.

بين هيغل ولاكان
ويعنُّ لنا بداية التساؤل: ما الجديد الذي قدمه جيجك لعالمنا المعاصر، ولاسيما في هذه الأوقات المرتبكة، ما بين تداعيات الجائحة، والطبيعة الغاضبة، وبينهما الحروب التي تكاد تذهب بسلام العالم وأمنه وأمانه؟
والشاهد أن عقلية جيجك الفلسفية هي مزيج من رؤى هيغل وفيلسوفه المفضل الفرنسي جاك لاكان، عطفاً على انتمائه الماركسي، وهي عقلية تنتج يومياً رؤى تقدمية، يمكن أن نصفها بأنها يسار إنساني معاصر، بعيداً عن جدران الستار الحديدي السابق لستالين وشركائه.
وفي مؤلفه عن الوباء، يضع جيجيك العالم أمام حقيقة هي أن الرأسمالية المتوحشة، وبعد ملايين الوفيات، ومئات الملايين من الإصابات، باتت غير قادرة على المضي قدماً بالأدوات القديمة نفسها، وكذا الطرائق البالية، وأن ثمة تغييراً جذرياً ينبغي أن نقدم عليه كأسرة بشرية.

الوباء والحكمة
والسؤال: هل العالم لا يتغير، والبشرية لا تتعلم من دروس الماضي؟
يجزم جيجك بأن هناك آثاراً ستتركها الجائحة، من دون شك، على عقولنا، وعلى نظام العالم الاجتماعي والاقتصادي الذي لم يعد فاعلاً، بل أكثر من ذلك يتوقع أن تجلب الطوارئ المرتبطة بالجائحة حالة شمولية جديدة.
وفي هذا السياق تبدو رؤى الفيلسوف الألماني الشهير هيغل، ذات تأثير واسع على رؤى جيجك العقلانية، إذ يدعونا إلى مراجعة ما كتبه، ومنه أن: «الشيء الوحيد الذي يمكننا تعلمه من التاريخ هو أننا لا نتعلم منه شيئاً»، ولذلك يشك مفكر سلوفينيا الأبرز في أن الوباء سيجعلنا أكثر حكمة.
ويكاد المتأمل لإنتاج جيجك وكتاباته حول الجائحة يربط بينها وبين حالة الحروب التي تبدو البشرية وكأنها منتشية بها، وهو طرح له وجاهته، ذلك أن الفيروس القاتل قد خلق أول الأمر حدوداً وسدوداً في عالم الجغرافيا، وربما تالياً في العقول والقلوب، وولد رؤى أنانية مجتمعية، وكأن لسان حال البعض يقول: «أنا ومن بعدي الطوفان»، الأمر الذي قاد العالم عبر انعزالية جديدة، حتى لو كانت مقنّعة.

تضامن إنساني
ويرى جيجك أن الحل لن يكون عبر العزل وتشييد الجدران، أو مزيد من الحجر الصحي، بل إن الحاجة قائمة بقوة إلى تضامن كامل غير مشروط، واستجابة منسقة على المستوى العالمي.
وفي هذا المقام يحيلنا جيجك إلى الاقتصادي الصحافي البريطاني الشهير ويل هاتون، ومقولته الشهيرة: «إذا عزلت الدول نفسها، فستبدأ الحروب».
ولذا فإن دعوة جيجك ليست إلى المدينة الفاضلة أو «اليوتوبيا» التي لا توجد إلا في مخيال الفلاسفة والحالمين القدامى، وإنما يدعو إلى نسق تضامني وتعاون عالمي هدفه الرئيس اليوم نجاة كل فرد منا، انطلاقاً من رؤى عقلانية، وإلا فالهمجية التي تكاد تختبئ وراء أقنعة إنسانية، قادمة لا محالة، قد تظهر اليوم في صورة حروب الحدود، وربما غداً في شكل الصراع على الغذاء والمياه، ما يعني أن البشرية قد تعود القهقرى، إلى زمن الهمجية والمركب الخشن للحياة الأولى!

باحث عن الحقيقة
ولد جيجك في 21 مارس من عام 1949، في العاصمة السلوفينية، لأب اقتصادي وأم محاسبة. ويصف طفولته بأنها كانت غير سعيدة، وربما كان فعل القراءة هو ما شكل حياته، وقد عبر عن ذلك بقوله ذات مرة: «كنت أقرأ وحيداً».
وفي مقتبل العمر أراد أن يصبح مخرج أفلام ولكنه نحى الأمر جانباً، فقد أغواه فكر هيغل الذي يصفه قائلاً: «إنه كل شيء بالنسبة لي»، ويصف أعماله المنشورة بأنها أغلى ما يمتلك.
وعلى مدار السنوات ظهر نشاط جيجك الفكري، كفيلسوف باحث عن الحقيقة في وضح النهار، وإن لم يحمل مصباح ديوجينس، باحث بروح الرفقة والتضامن، وتعرية الأقنعة وكشف الزيف، في أي بقعة أو رقعة حول الكرة الأرضية. وللرجل رؤى مطولة حول قضايا أوروبا وصراعاتها الراهنة، غير أن ما يهمنا التوقف أمامه، هو البعد الإنساني المتمحور حول اللاجئين من أصول أوروبية، ومقارنتهم بلاجئين آخرين، بعضهم من آسيا، وبعض آخر من الشرق الأوسط، ولاسيما في زمن ما عرف باسم «الربيع العربي».

  • من أعمال جيجك
    من أعمال جيجك

ازدواجية المعايير
وعن موضوع ازدواجية المعايير في التعامل مع اللاجئين قال جيجك: إن أوروبا تتعامل بطريقتين مختلفتين مع نوعين من اللاجئين، لجوء شريحة من ذوي الأصول الأوروبية، وهذا مرحب به، ولجوء يخص بقية الشرائح الأخرى، أولئك القادمون من العالم الثالث، الذين لا يستحقون ضيافة الأوروبيين كما يرى البعض!
ويرى جيجك أن اللباقة السياسية تتطلب تجاوز ما يسميه بالمرحلة «مابعد- الاستعمارية»، وأنه لا يمكن إقناع دول العالم الثالث بالوقوف صفاً إلى جانب أوروبا، من غير أن يقدم لها الأوروبيون خيارات أفضل من التي تقدمها القوى الدولية الأخرى المنافسة، وربما يجيب هذا عن سؤال: لماذا تنحاز بعض شعوب العالم الثالث للقوى المنافسة في مواجهة الغرب؟ 
ويصف البعض جيجك بأنه فيلسوف «ما بعد إنساني»، لإيمانه بوحدة البشرية على نحو يتجاوز الهوية القومية والعرقية، فقد انتقد بعض التصرفات التي وصفها بالعنصرية في قارته الأوروبية. ويقدم جيجك مقاربات «ما بعد إنسانوية»، في زمن كورونا والبيئة (الإيكولوجيا) الغاضبة، وعنده أن عالمنا يعيش مفارقة مثيرة، فكلما كان مرتبطاً ببعضه بعضاً، استطاعت كارثة محلية إطلاق خوف عالمي يؤدي في النهاية إلى جائحة عالمية!

وحدة الإنسانية
وكذلك يبقى التهديد المناخي، عاملاً رابطاً وموحداً للإنسانية بسبب تقاربها اليوم وتلاشي المسافات فيما بينها، ففي ربيع 2010 مثلاً نجحت سحابة متأتية من ثوران بركان بسيط في إيسلندا في إيقاف حركة الطيران في عموم أوروبا.. فماذا يعني ذلك؟
باختصار، إنها دعوة لتواضع الجنس البشري، والبحث عن جسور التلاقي لا جدران العزلة، فعلى رغم قدرة الإنسانية المدهشة على تسخير الطبيعة لصالحها، إلا أنه يوماً تلو الآخر يتضح للبشر، أنهم ليسوا سوى نوع واحد من الكائنات الحية على الأرض.
والحال أن جيجك ظاهرة فكرية وليس مجرد فيلسوف، والحاجة إلى قراءته ينبغي أن تذهب أعمق كثيراً جداً من مجرد السرد السريع الوارد في هذه السطور.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©