الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تجليات الأشجار المعمّرة

تجليات الأشجار المعمّرة
23 يونيو 2022 00:52

نوف الموسى (دبي)

ماذا يمكن للفن أن يثريه بصرياً، بعد ولادة اللحظة في المكون الطبيعي كالأشجار المعمرة؟ هل يمثل امتداداً زمنياً للحظة الخلق؟ فالأشجار المعمرة تحمل الشعور بوصفة تجربة حسيّة، إلى جانب كونها ذاكرة لعبت دوراً جوهرياً في ترسيخ هوية المكان، واتخذ منها الإنسان علامة ومؤشراً للتحولات اللانهائية، وكأن الأشجار المعمرة في وصف شاعري عابر قد تكون مرتكزاً للوعي الإنساني عبر آلاف السنين، ولذا فإن البحث عن علاقتنا بشجرة قد يتجاوز عمرها الـ 100 سنة، تسكن بالقرب من بيوتنا وساحات التنزه، وأحياناً في وسط مدرسة، أو على حافة شارع عام، وأيضاً في القرى الريفية البعيدة، إنما هو إدراك لمدى الاتصال العميق بذواتنا الخاصة، وإعادة اكتشاف لعمق احتياجاتنا الأولية وتعزيزها برؤى جمالية، وربما من هنا كذلك توقفنا كثيراً في بحثنا عما إذا كانت تلك الشجرة المعمرة تعرضت إلى توقف نسبي عن النمو، وأعلنت بشكل صريح رغبتها في الرحيل! ما الذي يُمكن فعله للحفاظ على ذاكرتنا الحسية، وكيف نستمد من جذورها وجذوعها السميكة مسارات لبناء بوابات بصرية ضخمة، من شأنها أن تلهمنا، وتجعلنا متصلين بذات الفضاء العام، ما يتيح لنا متسعاً ومتخيلاً ذهنياً أكبر للتطور والنمو.

الذهاب بالسؤال للمختصين بتشكلات الفضاء العام، دائماً ما تكون له متعة خاصة، من حيث إن المفاهيم المكانية واتصالها بالطبيعة، تقودنا عادةً إلى استخدام المخيلة بشكل كبير ومذهل، فكيف يا تُرى فنياً ومعمارياً، نستطيع تشكيل عمل تركيبي أو غاية معمارية من بقايا شجرة معمرة، ترتكز بجذوعها في مكان عام، قابل للتعمير وفق سياقات الحياة المدنية الحديثة. في استفهام أولي للفنان د. محمد يوسف، الذي عمل بشكل مكثف وقريب من البيئة الطبيعية لدولة الإمارات، ذهب مباشرة إلى سُمك تلك الأشجار المعمرة ومتانتها التي عادةً ما تهدي مساحة أكبر لأشكال بصرية متنوعة، وفي الوقت ذاته تحفظ العنصر المتفرد في كونها «شجرة» في نهاية المطاف.
وظل الفنان د. محمد يوسف طوال السرد المتخيل لكيفية التفاعل مع موت الأشجار المعمرة، وإمكانية تحويلها إلى أعمال فنية، يتساءل عن موقعها قائلاً: «الأمن والسلامة مهمة لي كفنان، أحياناً تقع الشجرة في مساحة غير آمنة لتفاعلنا اليومي في الفضاءات العامة، وهنا يصعب إنجاز الاشتغالات الفنية عليها، وفي المقابل إذا ما توافرت الظروف المحيطة الجيدة، فإنه بالتأكيد يتحتم علينا كفنانين الحرص التام، في أن لا يشوه الفعل التركيبي الإحساس الطبيعي لحضور الخشب، وعلى الناس أن يستشعروا طوال الوقت مهما بدا لهم مستوى التحول في المشهدية البصرية، سواء صنعنا منه كوخاً أو سلالم أو حتى أعشاشاً للطيور، فإن المادة والخامة التي يتفاعلون معها لا تزال هي الشجرة».

  • محمد يوسف
    محمد يوسف

موسيقى الأشياء
ويفكر الفنان د. محمد يوسف بالإيقاع، ويتأمل إذا ما أضاف فتحات للشجرة، كيف لدخول الهواء أن يخلق تردداً خاصاً لها، فهو مشغولٌ كفنان بموسيقى الأشياء في كونها قادرة على بيان ذبذبات العنصر الحيّ، والذي يمكن اعتباره لغة خاصة بتلك الأشجار. وبينما يستمر وصف الفنان د. محمد يوسف للترددات ودورها في الأعمال التركيبية، يتولد لدى المتابع تصور ملهم في كيف أن الأصل من دخول الهواء إلى جذع الشجرة، أو المشروع ككل، من فعل الإنسان، وأنه يشرع في خلق الحوار مع الطبيعة بأشكال متعددة، وهو أمر يمكن اعتباره في حد ذاته مجازفة، تستدعي شجاعة خاصة، في أن يستمر الإنسان في الدراسة والبحث، فالأخير ضرورة أشار إليها الفنان د. محمد يوسف خلال الحوار، في أنه لا يمكن البدء دونما دراسة كاملة وواضحة، وتفرغ كامل، يتعرف من خلالها الفنان على نوع الخشب، والعلاجات والأدوية المناسبة، فكما نعرف فإن هناك حشرات تظل تهاجم الخشب باستمرار، مضيفاً أهمية أن يواجه العمل التركيبي عوامل التعرية المختلفة، في إشارة إلى عامل الزمن، وأثره على المخزون البصري المتراكم لدى الناس والبيئات المحيطة بالأشجار المعمرة القابلة للتحول. وكما أوضح د. محمد يوسف أن على كل شيء أن يعود للطبيعة، والتفاعلات البصرية بشكل عام قادرة على أن تحقق ما نصبو إليه جميعاً، وهو الشعور بدهشة المتلقي. 

مساحات متفردة
وتحدث د. محمد يوسف، عن معنى الالتزام بالأرض، وأسماها منهجية الحركة إلى أعلى، والحركة إلى أسفل، فالأشجار لها أقدام تتحرك تحت الأرض، بالتوازي مع حركة أقدام الإنسان، والتفكير في فرصة حقيقية، يساهم فيها الفنان د. محمد يوسف في إرجاع الكثير من هذه الجذوع الكبيرة للأرض، يراها بمثابة رغبة دفينة في وجدانه، وهو مستعد لها جداً، عبر مساحات متفردة يمكن الاشتغال عليها في قلب المدينة وكذلك الأرياف البعيدة في دولة الإمارات، تصل بنا إلى تجسيد فضاءات ثقافية ومعرفية وبصرية تتفاعل مع حياة الناس اليومية. 

خارج النطاق
في المعرض الفني «خارج النطاق» للفنان عمّار العطار، الذي أقيم بتنظيم من «معرض 421» بالعاصمة أبوظبي، قدم الفنان عمار وقتها مشروعاً لربط الأشجار الميتة مع بعضها بعضاً بحبال، وتحدث لـ«الاتحاد»، في أنها تجربة استشعار خاص بالأشجار وحاجتها للترابط، قام من خلالها بدراسة بحثية متأنية لمواقع مختلفة من الأشجار الميتة في مناطق ريفية في الدولة، مثل منطقة الذيد بإمارة الشارقة، وقد تكون بعض تلك الأشجار غير معمرة، ضمن الوصف المتعارف عليه في الجهات الاختصاصية، إلا أنها أشجار قديمة، ارتبطت ذاكرتها، بالمزارع القديمة وطرق الري التقليدية التي كانت تعتمد على الأحواض.

  • عمار العطار
    عمار العطار

ولم يعمد الفنان عمّار العطار في هذا المشروع، إلى إحداث أي تغيير جذري في الحالة الطبيعية للأشجار، وإنما هي محاولة لتكثيف الاتصال فيما بينها، وقد تتراءى للمشاهد الفائدة المرجوة من الحبال المتصلة بين مختلف الأشجار الميتة. ولكنها في المعنى الفني للأعمال التركيبية، بمثابة دعم لإحساس التواصل مع البيئة الطبيعية، أراد الفنان عمّار من خلاله خلق لغة بصرية جديدة، هي ليست عملية إنقاذ حقيقية، ولكنها مناجاة لإمكانية إحياء المكان. وجوهر الأعمال الفنية لدى الفنان عمّار العطار في معرض «خارج النطاق» هو إتاحة أكبر فرصة ممكنة للأفراد، للخروج من دوامة التكرار وفعل الأشياء دونما تفكير، والانتباه إلى خيارات الحياة الواسعة من خلال إعادة اتصالهم بالطبيعة الأم. وبذلك فإن الفنان عمّار العطار يهدينا بعداً جديداً لسؤالنا حول أثر حضور العمل التركيبي بأصالته دونما تدخلات، في أنها تعزز قوة حضورنا الإنساني، وخاصةً أنها تقوم على قوة المخيال وتتجاوزه إلى كل ما هو اعتيادي. 

الطبيعة والتصميم
لاشك أن العوامل الاجتماعية والبيئية والثقافية والتاريخية للموقع، أحد المقومات الرئيسية للدراسة البحثية التي يحتاجها المهندس المعماري لبدء عملية التصميم في المكان، هذا توضيح جوهري أشارت إليه المهندسة المعمارية شذى الملا، التي يقوم عملها بشكل أساسي على وضع الاستراتيجيات العامة، وخاصةً فيما يتعلق بالعمارة في مجال التراث الحديث، مبينة كيف أن هناك العديد من الفنانين يستفيدون من الطبيعة وتحديداً الأشجار بأنواعها في بناء المشهدية البصرية الخاصة بأعمالهم الفنية، وتحديداً التركيبية منها. 
وفي المقابل، فإن هناك الكثير من المعماريين في مستويات مختلفة نجحوا في الحفاظ على الحالة البصرية متوازية بين خط الطبيعة وخط التصميم والبناء، مستفيدين من العناصر الطبيعية التي تحيط المكان، وهم بذلك يلتقون مع الفنانين في أهمية الحفاظ على المكامن الأصيلة للموقع، ومحاولة تطويرها دونما المساس بمكامن الأشجار والتربة نفسها، وفي دولة الإمارات هناك العديد من النماذج على مستوى المحميات الطبيعية، حيث يمكن اعتبارها منجزات معمارية ناجحة في تعزيز الاتصال بالطبيعة، مثل «محمية واسط الطبيعية» في إمارة الشارقة.

  • شذى الملا
    شذى الملا

ولفتت المهندسة المعمارية شذى الملا إلى أننا إذا تأملنا المساحة المفتوحة في محمية واسط، وموقع مركز واسط للأراضي الرطبة، ففي البداية لا يمكن ملاحظته كمبنى، فهو محفوف بالأشجار في منطقة منخفضة، وحركة الناس عادةً، لا يمكن أن تزعج الحيوانات والنباتات في الموقع، لكون نوع الزجاج بطبيعته قادراً على إخفاء المارة، بينما الكائنات في الخارج تتحرك بحريتها.ويعمد المهندسون المعماريون إلى إزالة العناصر التي لا تخدم عملية تصميم البناء، بحسب المهندسة المعمارية شذى الملا، حيث إن بعضها قد يكون ضاراً أساساً في العملية الإبداعية لتصميم المعماري وعلاقته بالمكان، إلا أن العناصر التاريخية ذات الارتباط المباشر بحياة الناس، مثل الأشجار المعمرة، يتم الحفاظ عليها وترقيمها، بحسب خبرتها الميدانية، وفق الإجراءات الخاصة بالجهات المعنية في مدينة دبي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©