السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

العرب والألمان.. لقاء حضارتين

ألمانيا
23 مايو 2022 02:57

إميل أمين

تستدعي فعاليات معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الحادية والثلاثين، التي تحل فيها جمهورية ألمانيا الاتحادية كضيف شرف، مقاربة وقراءة للعلاقات الثقافية العربية الألمانية، ولاسيما في ظل الزخم الفكري الذي توفره فعاليات المعرض، وفي ظل حضور ناشرين ومثقفين ألمان، في لقاءاتهم مع جمهور الثقافة الإماراتية والعربية، عبر أكثر من 15 جلسة ثقافية ومهنية متنوعة. وهنا يطرح سؤال إجرائي نفسه منذ البداية: من أين يمكن للمرء أن يؤرخ لبداية العلاقات الثقافية العربية الألمانية، وهل هي علاقات محدثة أم أنها، فعلاً وقولاً، علاقات عميقة وضاربة في جذور التاريخ؟

أيام الناصر و«أوتو»
في هذه السطور، سنحاول الحفر عميقاً، وربما سنندهش من قصص تاريخ التواصل العربية الألمانية التي تعود إلى القرن العاشر الميلادي، والعهدة على الأكاديمي والأديب اللبناني الراحل ميشال جحا، وهو مثقف كلاسيكي متمكن، يؤكد أن العلاقات الثقافية بين العرب وألمانيا تعود إلى زمن الإمبراطور الألماني «أوتو»، الذي أرسل كاهناً يدعى يوحنا ليكون عيناً ثقافية له وسفيراً فوق العادة لدى الخليفة عبدالرحمن الناصر بالأندلس. كان ذلك في عام 956م، ووقتها بادر الخليفة الناصر، من جانبه أيضاً، بإرسال أحد القساوسة من رعاياه كسفير له عند الإمبراطور الألماني.

  • من أعمال المستشرق الألماني كارل بروكلمان
    من أعمال المستشرق الألماني كارل بروكلمان

أوروبا وحضارة العرب
ومن جانب ثانٍ يذهب كُتاب ومؤرخون آخرون إلى أن اتصال الألمان بالشرق يعود بصفة خاصة إلى زمن الحملة الصليبية الثانية (1147-1149م)، ورغم المآسي التي حملها تاريخ تلك الحقبة الزمنية، إلا أن الحجاج الأوروبيين، لدى عودتهم من زيارة الأراضي المقدسة في فلسطين، وصفوا ونقلوا الكثير عن حضارة العرب وثقافتهم، ومن ثم فتحوا الطريق واسعاً أمام الرهبان الأوروبيين للترجمة عن اللغة العربية، وقد بدأ ذلك أولاً في الأندلس وامتد إلى ألمانيا، وهو رأي يؤكده المستشرق الألماني الشهير يوهان فوك (1894-1974)، في كتابه الشهير «تاريخ حركة الاستشراق».
وقد أبرز فوك بشكل خاص مقام اللغة العربية ومكانتها المتميزة في قوله: «لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر».

  • عالم التاريخ الألمانيّ كارل بروكلمان
    عالم التاريخ الألمانيّ كارل بروكلمان

ولم يكن فوك في واقع الحال وحده مَن توقف عند خطوط التماس مع الثقافة العربية فهنالك أيضاً المستشرق كارل بروكلمان (1868-1956)، الذي تحدث عن اتساع فضاء اللغة العربية قائلاً «لقد بلغت العربية بفضل القرآن من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أية لغة أخرى من لغات الدنيا».

غوته واكتشاف الثقافة العربية
وهنالك أيضاً شخصية ألمانية تاريخية أخرى، تعتبر من رموز الثقافة الألمانية، ينبغي التوقف عندها لتبيان عمق العلاقات الثقافية العربية الألمانية، إنها شخصية الشاعر وعالم الطبيعة وأحد أبرز الأدباء في كل الأزمنة الذين أبدعوا باللغة الألمانية يوهان غوته (1749-1832). فقد شكل احتكاك غوته بالأدب العربي، وخاصة بالشعر العربي، ثم المخطوطات الدينية، دافعاً مهماً له لكتابة مؤلفه الرائع «الديوان الشرقي الغربي» الذي يعد ثمرة للتواصل البناء بين الحضارتين.
وقد جسّد تأثر غوته بالثقافة العربية والإسلامية نموذجاً ناجحاً وإيجابياً للتقارب الإسلامي المسيحي، وكان أول شاعر أوروبي يؤلف أغاني عن نبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم) وعن المسلمين، وأول شاعر غربي أقدم على تأليف ديوان كامل عن الغرب والشرق، مجسداً فيه قيم التسامح والتفاهم والتعايش بين الحضارتين.

  • الديوان الشرقي الغربي لغوته
    الديوان الشرقي الغربي لغوته

غواية الأدب العربي
ولم يكن غوته ليصل إلى ذلك إلا بعد تواصله المستمر مع الإسلام والمسلمين، وقد افتتن غوته بالأدب العربي، كما افتتن بالشعر العربي، وشغفته اللغة العربية، كما شغفته القيم العربية التي كانت تتمثلها الأشعار والملاحم العربية، وبالذات قيم العزة والكرامة والحرية والشجاعة، سواء مع العدو أو الصديق.
ومن أكثر الأشعار التي أثرت فيه بشكل خاص أشعار المتنبي التي تعرف عليها في أثناء دراسته في مدينة «لايبسيج» عبر ترجمة رايسكيه، إلى درجة أنه قام بإدراج بعض من نفحاتها في روايته الشهيرة «فاوست»، وكذلك تأثره بالملاحم الغنائية لأبي تمام التي حملت عنوان «الحماسة».
ويمكن القطع بأن حركة الاستشراق الألماني تجاه الثقافة العربية، قد بدأت بشكل منهجي في القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، عندما تحمس بعض المستشرقين الألمان وسعوا إلى تعليم اللغة العربية كما فعل ياكوب كريسمان (1554-1613)، الذي قام بتأليف نبذة مختصرة لفن الخط العربي، ثم عمد وجماعته الثقافية في ذلك الوقت المبكر إلى ترجمة مخطوطات عربية في الفلك والطب، مباشرة عن العربية إلى الألمانية، مثل كتب الفرغاني وأبي الفداء، ومختصر المجسطي في الفلك لبطليموس.

كنوز الشرق
وتمضي بنا رحلة البحث في أبعاد العلاقات الثقافية العربية- الألمانية، فنجد تاريخياً عدداً من الرواد الذين كانوا مدفوعين بفكرة الأدب العالمي ومنطلقين من وحدة المصير البشري، وقد قيض لهؤلاء مترجمون عظام نقلوا إلى اللغة الألمانية عيون الأدب العربي، وكان على رأسهم المستشرق يوزف فون هامر - بورغشتال (1774-1856)، الذي وضع في النصف الأول من القرن التاسع عشر كتباً ومطبوعات عديدة، نذكر منها مجلة «كنوز الشرق»، التي أوضح في مقدمته أن الهدف منها هو: «أن تضم كل شيء يأتي من الشرق أو له علاقة به». وفي السعي الحثيث لتجذير هذه العلاقة تقابلنا أيضاً شخصية يوهان هردر (1744-1803)، الكاتب والشاعر، والناقد والفيلسوف واللاهوتي الألماني الكبير، المفكر الذي يمكننا اعتباره المكافئ الموضوع بالضد من صموئيل هنتنغتون ورؤيته المتأخرة عنه بنحو مائتي عام عن «صراع الحضارات».
ففي غالبية كتابات هردر حاول الوصول إلى جوهر الحضارة الإسلامية، وكذلك جوهر الشعر العربي، وكان من أهم هذه المحاولات تلك التي قام بها في كتابه «أفكار حول فلسفة تاريخ الإنسانية».

مفاتيح فكرية ولكن، ما الذي سعى إليه هردر في هذا العمل الكبير والخلاق؟
باختصار، لقد سعى لاكتشاف الأسس التي يقوم عليها تاريخ البشرية، وفي محاولته هذه كانت تلازمه فكرتان أساسيتان:
الأولى: أن التاريخ الإنساني عبارة عن سلسلة متصلة بمعنى أنه وحدة متكاملة. والثانية: أن تاريخ كل أمة هو تعبير خاص عن ضمير هذه الأمة، وأن حضارتها تعبير عن عبقريتها الخاصة بها، وأن كل الحضارات هي عبارة عن سلسلة متصلة تشد جميع الشعوب إلى بعضها بعضاً. والحال أن رؤية هردر أكدت على أن الحضارة العربية، التي شارك في صنعها علماء ومفكرون غير عرب وغير مسلمين، كانت حلقة في تلك السلسلة الإنسانية، بل وأسهمت في تقديم مفاتيح فكرية للحضارة الأوروبية وبخاصة عبر ترجمة معارف الحضارة اليونانية إلى اللغة العربية ومنها إلى اللاتينية.

فرص كبرى للتعاون
في الوقت الراهن، تبدو ألمانيا الأكاديمية والفكرية مشغولة اليوم بإعادة الاهتمام بالدراسات التاريخية القروسطية، وهو ما تتناوله البروفيسورة جوليا هاورز المختصة في التاريخ العالمي، التي ترى أن هناك إمكانية كبرى للتعاون العربي الألماني في عملية البحث التاريخي، ولاسيما أن ذلك يمكن أن يفضي في مجتمعات المستقبل متعددة الأديان ومختلفة الإثنيات إلى «مقاربة للعيش المشترك بشكل جديد وربما أكثر إنصافاً»، حيث يتم استكشاف لحظات الوفاق وحتى محطات الفراق، ولكن من منظور عقلاني وإنساني يمهد الطريق لمسيرة تعاون وشراكة عربية ألمانية خلاقة.
والحال أن معرض أبوظبي فرصة ثمينة للمثاقفة العربية الألمانية، وللتأكيد على صحة المقولة ما بعد الحداثية القائلة إن «الهوية تغتني بالآخر وتجد معناها في الآخر المختلف».

  • سيغريد هونكه
    سيغريد هونكه

زيغريد هونكة وشمس العرب
وفي كل الأحوال فإنه لا يمكن أبداً لأي باحث محقق أو كاتب مدقق أن يتناول الشأن الثقافي العربي الألماني، من غير أن يتوقف عند المستشرقة الألمانية المعروفة زيغريد هونكه (1913-1990)، التي أسهمت بكتاباتها العميقة في مجال الدراسات الدينية، وهي صاحبة كتابين مهمين انتشرا في العالم العربي:
الأول: «شمس العرب تسطع على الغرب».
الثاني: «الله ليس كذلك».
وعندها أن لقاءات العرب والألمان كانت على مدى اثني عشر قرناً من الزمن مميزة دائماً ومتأثرة بشكل فريد من أشكال المشاركة الوجدانية ومشاعر الاستلطاف والود. وتؤكد هونكة أن هناك أسباباً لذلك، ففي طبيعة العرب والألمان بعض السجايا والسمات المتشابهة منذ العصور القديمة، وقبل أول لقاء بينهما بزمن طويل، فعلى رغم الفروق العرقية لا يخفى هذا الانسجام الفريد وذلك الارتباط النادر الذي لا وجود لمثله البتة في العلاقات بين العديد من الشعوب الأخرى.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©