«الفكر المركّب».. والوعي العلمي

الفاهم محمد

لا تمس ثورة فيزياء الكم ككل الثورات العلمية فقط النشاط العلمي في حد ذاته، بل تنعكس أيضاً على مجمل الفكر الإنساني وفي مقدمته التفكير الفلسفي الذي لطالما كان على علاقة تأثر وتأثير مع العلوم منذ المرحلة اليونانية.

إن ما تفيدنا به نظرية فيزياء الكم اليوم هو ضرورة النظر إلى الطبيعة بطريقة مغايرة، وضرورة التفكير بشكل آخر، بل وبلورة تصور مغاير للوعي البشري. إننا نعيش مرحلة انتقالية من الوثوق «الباراديغم» الميكانيكي الذي ميز عصر النهضة والأنوار، والذي شكل أساس العلوم التجريبية كما هو الحال عند نيوتن وغاليلي وكوبرنيكس وغيرهم، إلى «باراديغم» التعقيد الذي يسهم اليوم في بنائه بشكل أساسي ما يعرف بـ«الفكر المركب» على المستوى الفلسفي، وفيزياء الكم على المستوى العلمي. فما نلاحظه عند كليهما هو ضرورة تجاوز التصور الميكانيكي للعالم، نحو تصور أكثر تعقيداً وعمقاً.
في كتابه «مدخل إلى الفكر المركب» يحدد الفيلسوف الفرنسي إدغار موران ما يعنيه بكلمة تعقيد. وهذا المفهوم لا يدل على أن الفكر بإمكانه أن يذيب ما هو مركب داخل ما هو بسيط، أي أن ينتج القانون البسيط المعبر عن الكل. فالتعقيد في نظر موران هو «كلمة مشكلة وليس كلمة حلاً» (ص 10). فلا ينبغي أن نفهم إذن من خلال عمل إدغار موران ومشروعه الفكري، أننا سنتمكن من تجاوز التعقيد نحو تعبيرات بسيطة وواضحة كما كان يعتقد ديكارت. فما هو عقلاني ليس بالضرورة واضحاً وبسيطاً. وهنا إذا كان ديكارت يتجاهل التعقيد ويطمسه بوساطة صيغ الفكر المبسطة، فإن إدغار موران على العكس من ذلك يحاول أن يعكس هذا التعقيد داخل الفكر بما هو بنية مكونة لوجود الأشياء، ولكنه في تعبيره عن التعقيد وتفاعله معه يحاول فهمه وإدراك قوانينه.

مفهوم التعقيد 
وفي موضع آخر من كتابه نفسه «مدخل إلى الفكر المركب» يعرف إدغار موران التعقيد بكونه: «ظاهرة كمية، أي الكمية القصوى للتفاعلات والتداخلات بين عدد كبير من الوحدات» (ص 37)، وطبقاً لهذا التعريف يمكن القول إن التعقيد ظاهرة كونية تتجلى على الأقل في ثلاثة مستويات هي كما يلي:
 - مستوى الطبيعة والكون
 - مستوى الحياة والكائنات الحية
 - مستوى السلوك البشري
ويغطي المجال الأول الفيزياء والكوسمولوجيا. والثاني تتكفل البيولوجيا والكيمياء الحيوية بدراسته. أما المجال الأخير فهو مجال واسع تتصدى له العلوم الإنسانية بمختلف أقسامها بالإضافة إلى الفلسفة. هذا على ألا ننظر إلى هذه المجالات الثلاثة على أنها معزولة عن بعضها بعضاً، بل بالعكس فدلالة التعقيد تبدأ من هنا، لأن هذه الدوائر تتفاعل مع بعضها بعضاً.
لقد ترسخت منذ عصر النهضة القسمة الحادة بين هذه العلوم وكأنها جزر معزولة عن بعضها بعضاً، ولكن مع الفكر المركب تتبيّن لنا استحالة فهم مجال معين من دون إدراك باقي السياقات، فالإنسان غير مفصول عن قصة الحياة، وهذه الأخيرة غير مفصولة عن قصة الكون ككل.

الأنطولوجيا الجديدة
والحال أن الأمر لا يتعلق فقط بهذه الدوائر الثلاث: الفيزياء والبيولوجيا ثم الأنثروبولوجيا، بل هناك دائرة رابعة هي الدائرة التي تتيح لنا تقديم النظرية العامة للوجود أي دائرة الأنطولوجيا. هذا مع التأكيد على أن الفكر المركب يقدم تصوراً أنطولوجياً يختلف بشكل جذري عن الأنطولوجيا التقليدية التي تظل، في نظر إدغار موران، مؤسسة على مفاهيم مغلقة مثل الماهية والهوية والحتمية والذات والموضوع (ص 56). لقد كانت هذه المفاهيم معزولة عن بعضها بعضاً، وبالتالي تميزت الأنطولوجيا التقليدية بانغلاقها وثباتها، لأن ما كان يهمها هو تقديم خطاب ساكن استاتيكي يقبض على الواقع ويمسك بالحقيقة النهائية للأشياء.
ومن هنا يظهر أن كل أنطولوجيا تقليدية كانت تخفي داخلها نزعة وضعية، لأنها تقصي كل شيء له علاقة بالخيال والإبداع والتطور. وربما كان هيدغر واحداً من بين القلائل الذين وقفوا في وجه هكذا أنطولوجيا، مؤكداً على انفتاح القول الفسلفي على ما هو شعري وعلى أن الغموض هو بنية أساسية من بنيات الوجود.

الانفلاق والانفتاح
إن إحدى العلامات الأساسية للفكر المركب كما يشرح إدغار موران هي عدم إمكانية ادعاء تقديم نظرية حول كل شيء، ولذلك علينا أن لا نفهم من كلمة مركب أن مثل هذا الفكر سيركِّب جميع المعطيات المعرفية الموجودة في باقي التخصصات ليصل إلى نظرية كلية. إن مثل هذا الطموح ينتمي إلى الفكر الميتافيزيقي.
إن «الفكر المركب» يتعارض مع التصور الكلي، من منطلق أنه لا يدعي أبداً تقديم نظرية نهائية ونسق مغلق للظواهر، فهو وإن كان يلامس التقاطعات والتشابكات الموجودة بين تخصصات كانت تبدو فيما قبل متباعدة، إلا أنه يصر أيضاً على أن المعرفة ستظل منفتحة ومتجددة باستمرار.
ومع ذلك لا يدل التعقيد على عدم قدرتنا على استخلاص قوانين للفكر. أو على عجزنا عن فهم ظواهر الكون والحياة يشكل واضح. فالفكر المركب وفيزياء الكم يلتقيان في طموحهما المشترك من أجل العثور على مثل هذه القوانين، وإدراك هذا التصور الواضح. وفي هذا السياق يتساءل إدغار موران: «كيف ننظر إلى التعقيد بكيفية غير تبسيطية؟». أما في الفيزياء الكوانتية فإن ما يصطلح على تسميته بالنظرية M هوأبلغ مثال لتجسيد هذه القوانين وتقديم هذه النظرة الموحدة للمعرفة.

معالم الفكر ووحدة المعرفة عند إدغار موران
نستطيع أن نحدد أهم معالم الفكر المركب كما حدده إدغار موران في العناصر الآتية:
1 - يدل «الفكر المركب» على عدم إمكانية فصل وتجزيء المعرفة، ضمن تخصصات متباعدة، بل بالعكس هناك ارتباطات أساسية بين جميع العلوم وبالأخص العلوم الآتية: الفيزياء والكوسمولوجيا والبيولوجيا والعلوم الإنسانية، إن كل هذه العلوم لابد أن تتضمن مجموعة من التواصلات فيما بينها من أجل إضاءة مشكل الوجود بشكل أفضل.
2 - التواصلات تفيد بأن هناك انسجاماً ووحدة في المعارف رغم تعددها الظاهر. لقد كان الفكر الميتافيزيقي كما رأى إدغار موران يقوم بتثبيت الوحدة عن طريق إلغاء التنوع. بينما قامت العلوم التجريبية بعكس ذلك أي إثبات التنوع وإلغاء الوحدة فانتهى بها الأمر إلى علوم مشتتة متباعدة التخصصات، أما الفكر المركب فهو يثبتهما معاً فهناك تعدد في العناصر ووحدة في الآن ذاته (ص 16).
3 - تكامل الوحدة والتعدد يفيد أيضاً بأن التعقيد نسيج (ص 17) بمعنى أنه يركِّب وحدات وعناصر كانت تبدو فيما قبل على أنها متنافرة ولا توجد بينها أي علاقة. إن كلمة نسيج تعني أن هذه العناصر خاضعة لنظام وترتيب، فهي ليست أشياء ناتجة عن الصدفة واللايقين اجتمعت كيفما اتفق. وبطريقة أخرى يفيد «الفكر المركب» إمكانية التفكير في التعقيد بطريقة منظمة، وفي الغموض بطريقة واضحة بدل الارتماء في أحضان فكر غير تواصلي يحول الفلسفة إلى ابتهالات شعرية غامضة (نقد لهيدغر).

4 - وهذا التعقيد ظاهرة كونية شاملة، ونحن نلاحظه في مجال العلوم الفيزيائية الكونية من خلال اكتشاف العالم المتناهي في الصغر (عالم ما تحت الذرة الكوارك والخيوط الوثرية) والعالم المتناهي في الكبر (عالم المجرات والسدم الكونية والثقوب السوداء والعوالم المتوازية). ونلاحظه أيضاً في مجال العلوم البيولوجية من خلال كشفها لبنية الكائن الحي المتمثلة في الحمض النووي، والخريطة الجينية وأخيراً يتمظهر لنا كذلك على مستوى العالم الأنثروبولوجي والاجتماعي، فالسياسة والاقتصاد والثقافة كلها توضح لنا اليوم أشكال التعقيد اللامتناهية في حياتنا.
5 - ويتجلى التعقيد أخيراً كحدث فكري هائل في الثورة الفيزيائية المعاصرة. إن الفيزياء الكمية والفيزياء النسبية، كلاهما تبيّنان لنا أن هناك تداخلاً بين الذات الملاحِظة والموضوع الملاحَظ عكس الفيزياء الكلاسيكية، التي كانت تقيم حاجزاً بينهما بدعوى الموضوعية. إن فيزياء الكم تقدم لنا اليوم نظرية تنبني على أطروحة أساسية هي أن الكون من الذرة إلى المجرات ما هو إلا نسق هائل من العناصر المتجمعة والمترابطة التي تتفاعل مع بعضها بعضاً.
وهكذا فما يمكن أن نسميه بـ«الفكر الكمومي» يثير اليوم تساؤلات عميقة من شأنها أن تقلب بشكل جذري منظورنا للكون والحياة. ولكن رغم الأهمية البالغة للمشروع الفكري الضخم الذي ينتهجه الفكر المركب، إلا أنه لا يزال محدود الانتشار، ولم يولَ العناية الكافية بالدراسة والتحليل. وهكذا سواء على مستوى الوثوق «الباراديغم» الفلسفي مع إدغار موران، أو «الباراديغم» العلمي مع فيزياء الكم، نلاحظ وجود ثورة عميقة تحدث في الوعي وفي تصور الإنسان لذاته ولمكانته في الكون.