الإثنين 20 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

السوريالية في المشرق العربي

السوريالية في المشرق العربي
31 مارس 2022 01:12

د. عز الدين عناية

ينتمي الباحث أرْتورو موناكو إلى جيل المستعرِبين الإيطاليين الجدد رؤيةً ومنهجاً، وهو ما يلوح جلياً في إلمامه المقدَّر بالعربية، بنيةً وخطاباً. وبما يشكّل فارقاً نوعياً مكتسَباً لديه ولدى ثلّة من الباحثين الغربيين الشبان، داخل حقل الدراسات الشرقية التي طالما عانت من الغبن. ولعلّ العنصر الرئيس المتحكم في مقاربة موناكو هو أَهليته في سبر غور تفرعات الأدب العربي، من خلال اطلاع على نصوصه من دون وساطة لغوية ومن دون ترجمات، بما يعني تجاوز الأحكام المسقَطة أو التقولات الجزاف، وهو ما يضعه على مسافة من مواقف كثير من المستشرقين وأشباه المستشرقين، ممن أعوزتهم الأدوات وبقوا على هامش المنتوج الأدبي العربي.
وفي مؤلفه المعنون بـ«سورياليات عربية 1938-1970.. السوريالية والأدب العربي في مصر وسوريا ولبنان»، الصادر عن معهد الشرق بروما (2020)، باللغة الإيطالية، يحاول الباحث معالجة ظاهرة السوريالية على مستويات الظهور والتطور والتفاعل في الشعر، في كل من مصر وسوريا ولبنان، داخل إطار تاريخي يتراوح بين صدور البيان الأول للسوريالية العربية وتوقّف «مجلة شعر» عن الصدور، أي بين 1938 و1970. وذلك من خلال تناول التجليات المبكرة للسوريالية العربية، سواء في مصر إبان مراوحتها بين النزعة الفرانكفونية والنزعة العروبية، أو في سوريا كتجربة معزولة، أو كذلك في لبنان وانغماسها في الترجمة وانفتاحها على إعادة الصياغة.

نَفَس تجديدي ملهم
فما من شك أنّ السوريالية كخطاب أدبي قد مثّلت دافعاً ملهماً ضمن مسار الأدب العربي الحديث. وهو بالفعل ما يخلص إليه الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا الذي يعزو إلى السوريالية جانباً مهمّاً من الإبداع العربي. صحيح أن السوريالية لم تشكل رافداً محورياً ضمن السياق الأدبي العام، ولكن تأثيرها لاح جلياً في العديد من أعمال الشعراء والأدباء والفنانين، بما خلّفته من نَفَس تجديدي.
ويُبرز موناكو في بحثه أن بدايات السوريالية في البلاد العربية قد أطلّت من مصر، في ثلاثينيات القرن الماضي، ثم امتدت إلى جملة من الأقطار، نحو سوريا، ولبنان، والعراق، وبلاد المغرب الكبير. وتقريباً في هذه الفضاءات شهدنا صياغات إبداعية للسوريالية بملامح محلية، اتفقت مع التيار الفرنسي واختلفت معه.

  • غلاف كتاب «سورياليات عربية»
    غلاف كتاب «سورياليات عربية»

حركة الديوان
وعلى ما يرصده الباحث، فإلى جانب «حركة الديوان» التجديدية في مصر، وإسهامات الرومنطيقيين في «مجلة أبولو»، ستليهما لاحقاً الصياغات الرمزية مع اللبناني سعيد عقل (1911-2014)، الذي استبق التيار السوريالي في العالم العربي. ليظلّ الإسهام الأبرز في التمهيد للسوريالية متمثّلاً في عمل المصري مصطفى صادق الرافعي (1880-1937)، حتى عدّه البعض «رائد الرمزية العربية المشرَع على السوريالية». فمنذ أواخر الثلاثينيات يمكن الحديث في مصر عن بداية تشكل موجة السوريالية مع جماعة «الفن والحرية»، تحت تأثير أجواء التعددية الثقافية التي عاشتها القاهرة والإسكندرية النشيطتين، عبر أعمال الفنانين والأدباء المتحدّرين من جاليات أوروبية.
وتلت تلك الموجة فورة أدبية تجلت في إنتاجات مجلات «الرسالة» و«التطور» و«المجلة الجديدة»، التي اضطلعت بدور محوري في دفع الحركة السوريالية. وضمن هذا السياق يمكن الحديث عن جورج حنين (1914-1973) كمنظّر حقيقي للسوريالية في مصر. 
ويتابع موناكو أعمال حنين وأفكاره التأسيسية، المتأثرة بالأجواء الفرانكفونية، ويرصد ما للسوريالية المصرية من رصيد أجنبي، وما مثّلته تلك الخلفية من جدل في شأن الابتعاد والاقتراب من المجتمع المصري، والانشغال والاغتراب عن الواقع العربي. وتقف على خلافها السوريالية الشامية المعرّبة في الأربعينيات مع أورخان ميسّر (1912-1965)، وعلي ناصر (1890-1970)، عبر التنظير المبكر لقصيدة النثر وتوظيف النزعة السوريالية في الشعر، ولاسيما مع الشاعر ميسّر في كتاب «سريال».

مجلة «شعر»
يتابع موناكو تمدد التيار السوريالي في لبنان مع جورج شحادة (1905-1989)، ويرصد الدور الفاعل لـ«مجلة شعر» التي تأسست سنة 1957 من قِبل الصحفي اللبناني يوسف الخال (1917-1987)، وما كان لها من تأثير في مسار الشعر العربي الحديث، عبر ترجمة الدراسات الغربية التي اهتمت بقضايا السوريالية والتعريف بلفيف من الشعراء الجدد من ذوي التوجه السوريالي، مثل إنسي الحاج وعلي أحمد سعيد (أدونيس) وشوقي أبي شقرا، وقد باتوا من الأصوات المعبرة عن الموجة الشعرية الجديدة. 
فمن خلال هذا الرصد التطوري المتأني تلوح أهمية الكتاب في التعريف بحركة أدبية بقيت مبعثرة الإنجازات. والواقع أن دور موناكو لم ينحصر في التأريخ للسوريالية داخل إطار الثقافة العربية، بل تخطى ذلك إلى إبراز الاتصال والانفصال عن الحركة الأم، فضلاً عن استحضار العوامل الاجتماعية والسياسية التي أثّرت في السوريالية العربية.

قوة تأثير
وإلى جانب محورية المنهج التحليلي المعتَمد من قِبل موناكو، عوّل الباحث على ترجمة جملة من النصوص الشعرية التي بقيت محصورة في العربية وأَطلع القارئ الإيطالي عليها، مبرزاً قوة تأثير السوريالية في حركة تجديد الشعر العربي. لتظلَّ الإضافة الأبرز لموناكو في تقصّي تطورات الإنتاجات السوريالية المدوَّنة بالعربية، التي طالما أُسقطت من اهتمامات الكتّاب الغربيين واستعيض عنها بما هو مدوَّن بالفرنسية خصوصاً في رصد الظاهرة.

  • أرتورو موناكو
    أرتورو موناكو

الفنتازيا والنهج الكافكوي 
ولعل الإشكال الآخر الذي يرصده موناكو أن السوريالية في الشعر العربي غالباً ما تتداخل مع حضور الرومنطيقية والرمزية والوجودية، فضلاً عمّا يغلب على المنضوين تحت التيار السوريالي من طابع مركزي. وبصفة أن السوريالية هي توجه يتخطى البُعد الواقعي ويناجي ثيمات مستوحاة من اللاوعي والحياة الباطنية والحلم، فقد بدت في كثير من الأحيان مرادفة للفنتازيا والنهج الكافكوي والتأمل الرؤيوي، وهو ما حجب الزخم العميق والمعقد للمشروع السوريالي الذي دعا إليه الفرنسي أندريه بريتون. إذ ظهرت السوريالية في أوروبا رفضاً لثقافة الهيمنة وتبشيراً بالحرية والثورة، ولعل ثقافة الرفض المستبطَنة في السوريالية هي ما أغرى الأدباء والشعراء العرب، كما يرى موناكو. وإن جابهت السوريالية في بداية ظهورها نفوراً بصفتها مشروعاً دخيلاً، في وقت كان فيه المدّ القومي في البلاد العربية متدفّقاً وما رافقه من تطلع إلى مشروع ثقافي محلي، فقد ظهرت السوريالية العربية في أوضاع إشكالية كان يعيشها الواقع العربي: تصفية بقايا الاستعمار، التطلع للتحرر، البحث عن الاستقلال الثقافي.

الصوفية والسوريالية
ومن جانب آخر يثير موناكو إشكالية التناصّ المفاهيمي بين الصوفية والسوريالية كما ذهب إلى ذلك أدونيس في مؤلف «الصوفية والسوريالية». ويخلص موناكو إلى أن الإلمام بالمسألة ينبغي أن يُطرح ضمن السياق المتحكم بالثنائي، وليس ضمن مقارنات سطحية قد تغرق الموضوع في الابتذال بمن سبق ومن لحق. 
صحيح أن الجمع بين الصوفية والسوريالية يلوح، للوهلة الأولى، موغلاً في المفارقة، بَيْد أن هناك تلامساً في الأفق وإن أعوزه التشارك في البنية نفسها. والحال أن التناص المفاهيمي بين التصوف والسوريالية قد سبق أن أثاره الجزائري حبيب تنقور، صاحب مانفستو السوريالية المغاربية (1981)، وهو ما حدا بالناقد هادي عبد الجواد إلى إطلاق «صوفيالية» على شعر تنقور.

تفاعل ثقافي
ويخلص الباحث أرتورو موناكو في كتابه إلى أن تأثيرات السوريالية قد مسّت كثيراً من الشعراء العرب، بدرجات متفاوتة. وعلى هذا الأساس لا يمثّل كتاب «سورياليات عربية 1938-1970» دراسة تأريخية جامدة، بل محاولة لإبراز ما للسوريالية من حضور فعلي في أعمال جملة من الشعراء العرب ممن شغلوا الناس في النصف الثاني من القرن العشرين. وينتهي المستعرِب إلى أن موجة السوريالية العربية هي تعبير عن تفاعل ثقافي حيّ بين المثقفين العرب والفكر العالمي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©