الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الكلمات تفصح عن شيء ما.. لماذا نكتب؟

الكلمات تفصح عن شيء ما.. لماذا نكتب؟
27 يناير 2022 02:31

بقلم: ماريا ثامبرانو

أن نكتب.. فإنّ ذلك يعني أن ننافح عن الوحدة التي تحاصرنا وتكتنفنا أنّى توجّهنا، وذلك إحساس لا ينتابنا إلاّ بفعل اعتزال فعليّ يسمح لنا بعيداً عن عالم الحسّ، باستشعار العلاقات المضمرة التي تصل بين الأشياء.
وغالباً ما تحفزنا تلك الوحدة إلى تبرير دوافعها وإلى حراستها والذّود عنها. والحال أنّ الكاتب حين يخطّ كلماته، يكون قد انتصب مدافعاً عن تلك الوحدة، ومفصحاً عمّا يتعذّر وجوده في ما سواها.
ولكن لماذا ترانا نمعن في الكتابة وثمّة الكلام المقول؟ ذلك أنّ أحاسيسنا المباشرة، أي تلك التي تنبثق من مشاعرنا العفويّة، هي جزء من تلك الأشياء التي لا نتحمّل بصورة كاملة عبئها، طالما أنها تأتي دائماً بصورة لجوجة وملحاحة. فنحن لا نتحدّث إلاّ لأنّ شيئاً ما يكون قد أزعجنا إلى الحديث، شيئاً ما قد يكون ضغطاً خارجيّاً، أو مأزقاً تدفعنا إليه الظّروف المحيطة بنا، ولأنّ الكلام يساهم بصورة ما في تحريرنا من تلك الأحداث الضّاغطة أو الظّروف الطّارئة. فبالمقول نتخفّف حينئذٍ من ضغط اللّحظة أو من الظّرف الذي يحاصرنا بصورة قسريّة ومباشرة. غير أنّ ذلك المقول لا يسهم حقيقة في إسعافنا، كما لا يشكّل ملجأ آمناً قد نعتصم به ونأوي إليه؛ لأنّ الإفراط في الكلام يثير فينا على العكس من ذلك، حالة من الالتباس والحيرة، فقد نسيطر بفضل الكلام على اللّحظة، ولكنّنا سننهزم مجدّداً أمامها ولن تكون لنا أيّة وسائل لردّ الفعل ومواجهتها.
ومن تلك الحيرة، الحيرة الحميميّة، الحيرة الإنسانيّة التي لا تهمّ إنساناً بعينه، تتولّد ضرورة الكتابة، إذ إنّنا نكتب كيما نتدارك الإرباك الثّابت الذي يسبّبه لنا إفراطنا في الكلام.
ولا مجال للتغلّب على ذلك إلاّ عند الحيّز الذي يطرأ فيه ذلك الإرباك.. أي حيّز الكلمات ذاتها. وستكون لتلك الكلمات عند الكتابة حينها، وظيفة مختلفة تماماً، إذ لن تكون في خدمة اللّحظة العابرة والضّاغطة، ولن تجعلنا نقف موقف التّبرير إزاء إطباق «المباشر» علينا، بل ستنطلق تلك الكلمات من أعماق كياننا، مستكشفة لسرّنا ومدعّمة إيّانا في مواجهة كلّ اللّحظات وكافّة الظّروف، بل الحياة بأكملها.
ثمّة في مجال الكتابة نزعة إلى حبس الكلمات وترويضها، كما يكون ميلنا في مجال المقول إلى جعل تلك الكلمات طليقة ومنفصلة عنّا. ففي لحظة الكتابة تُحتبس الكلمات كيما تكون ملائمة، خاضعة لإيقاع محدّد، وموسومة بمهارة ذلك الذي يكتب، وذلك بغضّ النّظر عن انشغال هذا الأخير بتوضيب تلك الكلمات بصورة واعية ووفق نظام منطقيّ محدّد. ويكفي خارج دائرة ذلك الانشغال أن نكون ذلك الذي يكتب، وأن يكون هاجسنا عند الكتابة هو حاجتنا الباطنة إلى التخلّص من الكلمات والتحكّم تماماً في ما يعترينا من انكسار وعجز، حتّى يغدو حفظ تلك الكلمات أمراً ممكناً، والحال أنّ إرادة حفظ الكلمات تكون دوماً مرافقة لفعل الكتابة. حينها تنخرط الكلمات في سياق تصالح مع الإنسان الذي، وهو يرسلها، يتحكّم فيها، ويفصح عنها بجمالٍ قوامه التبصّر والرّصانة والوقار.

  • الفيلسوفة الإسبانية ماريا ثامبرانو
    الفيلسوفة الإسبانية ماريا ثامبرانو

وينبغي أن تكون كلّ مأثرة إنسانيّة عملاً قوامه التّصالح. لقاء متجدّد بصداقة مفقودة، تأكيد للذّات بعد مصيبة راح ضحيّتها الإنسان، ومثل هذه المآثر.. لا مكان فيها لإذلال الغريم، لأنّه لو كان الأمر كذلك لما اكتسب الإنسان أسباب الرّفعة والعزّة والمجد.
هكذا يمضي الكاتب متلمّساً مواطن الرّفعة، رفعة التّصالح مع الكلمات المتسلّطة على ملكات التواصل لديه، لا لأنّه سيستعيد بذلك حالة الاستقامة التي تمليها الضّرورات الملحّة للحياة القويمة، وإنّما أيضاً لأنّه سيكتسب قدرة بالغة على التّواصل، تواصل يزيد في إثراء كينونته، ويدفع بإنسانيّته إلى حدودها القصوى، أي إلى حيث يتحقّق التّآلف مع الكلمات، وهي التي غالباً ما تكون خادعة ومتملّصة. فأن يخلّص الكاتب الكلمات من شوائب الزّهو والغرور والخواء، ليعيد صهرها من جديد ويطهّرها من شوائب الثّرثرة، فتلك هي الغاية التي ينشدها كلّ من يكتب حقيقة، وإن لم يكن مدركاً لها.
لأنّ ثمّة أسلوباً في الكتابة ونحن نتحدّث -فعندما نكتب «كما لو أنّنا نتحدّث»، ينبغي لنا التزام الحذر عند استخدام كلمة «كما لو..»، طالما أنّ سبب وجود شيء ما ينبغي أن يكون سبب وجود ذلك الشيء بعينه دون سواه. وأن نقوم بفعل شيء «كما لو» كان شيئاً آخر، فإنّ ذلك يجرّد ذلك الشّيء من معناه ويجعله محظوراً وغير جائز!
الكتابة هي لا أكثر ولا أقلّ من نقيضٍ للكلام، فنحن غالباً ما نتحدّث بفعل ضرورة ملحّة عابرة، وحين نتحدّث نجعل أنفسنا أسرى ما نكون قد أفصحنا عنه، بينما تكمن في فعل الكتابة أسباب التحرّر والبقاء -لأنّه لا يكون التحرّر إلا عند إدراك ما يكون قابلاً للبقاء.
فأن نخلّص الكلمات من طابعها الآنيّ ومن وجودها العرضيّ ونمضي بها إلى ما هو راسخ وثابت، فتلك هي رسالة الكاتب.
غير أنّ الكلمات تفصح عن شيء ما. فما عساه يكون ذلك الشّيء وما سرّ تعلّق الكاتب به؟ ثمّ لمَ ولمن تراه يكتب؟
إنّه لينشد البوح بسرّ، سرّ ينطوي على حقائق مضمرة لا يعرب عنها بصوت مرتفع، والحال أنّ الحقائق الجوهريّة هي من تلك الحقائق المطلقة التي لا يتّسع لها الكلام. فالحقيقة الكامنة في سرّ الزّمن، هي صمت الحيوات، ولا مجال للتّصريح بها. والمؤكّد أنّ ما يتعذّر التّصريح به هو تحديداً ما ينبغي كتابته.
فاكتشاف ذلك السرّ والإفصاح عنه هما الحافزان اللذان يدفعان الكاتب إلى الكتابة. ويتكشّف ذلك السرّ للكاتب متى كان بصدد الكتابة ولا حين التّصريح به، إذ لا تفصح الكلمات عن أسرارها إلاّ في حالات الانتشاء التي تتوارى فيها سطوة الزّمن.. أي في الشّعر. فالشّعر هو السرّ المنطوق الذي يكون بحاجة إلى الكتابة كيما يترسّخ ويتأصّل، وبصوت الشّعر يتحدّث الشّاعر. (...).

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©