السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أزمة الحب في المجتمعات المعاصرة

أزمة الحب في المجتمعات المعاصرة
21 أكتوبر 2021 07:05

الفاهم محمد

يعرف عصرنا هذا تخصماً كبيراً في الخطاب حول موضوع الحب، خصوصاً في مواقع التواصل والتعارف الاجتماعية، ورغم أن هذه العاطفة متأصلة في الشعور البشري منذ قديم الزمان، إلا أنه على ما يبدو كما لو أن الحب هو واحد من الاكتشافات الخاصة بعصرنا، مع ذلك وللمفارقة فهذا التضخم، يخفي شيئاً آخر مناقض تماماً لما ندعيه، ذلك أن الحب المتداول اليوم، هو خليط من اضطراب العواطف، واصطراع الغرائز، مدفوعاً في تيه فقدان الأمان وهشاشة الروابط الاجتماعية.
وهكذا يكون تناول موضوع الحب ليس من باب الرفاهية، ولكنه من باب توصيف الأزمة الأخلاقية والوجودية، التي يعيشها الإنسان المعاصر، فما خسره هذا الإنسان داخل في مستهل الألفية الثالثة هو الحب ذاته.
لقد انتبه إلى هذا الأمر جملة من المفكرين والباحثين، نقف عند اثنين منهما هما السوسيولوجي الألماني أولريش بيك، من خلال مفهومه عن الحب عن بعد، ومواطنه الفيلسوف زيغمونت باومان فيما يسميه بالحب السائل، إنها مجرد أمثلة من بين مؤلفات عديدة، وضعت في الثقافة المعاصرة لفهم ظاهرة الحب في عصرنا، وتسليط الضوء على التباساتها وتناقضاتها.، فما هي إذن هذه الأشكال الجديدة التي أصبح يتمظهر فيها الحب في حضارتنا؟.

الحب النائي
الحب النائي وتمزقاته المقصود بالحب النائي أو الحب عن بُعد، هذا النمط الجديد من العلاقة بين الطرفين، التي أصبحت تلعب فيها وسائط التواصل الاجتماعي الدور الرئيس، لقد كان بُعد الحبيب يذكي نيران الأشواق ويؤجج اللهفة، أما الحب عن بُعد الذي تعرفه حضارتنا، فهو محكوم باعتبارات أخرى إنها «الخروج على قيود المكان الواحد، واللغة الموحدة، وجوازات السفر الموحدة» (ص 84)، فهو حب نشأ في الفضاء الافتراضي في غرف الدردشة وشبكات التعارف عبر السكايب.
وإذا كان الحب كما عرفناه دوماً، يؤسس علاقة فعلية تخلق نوعاً من الاستقرار العاطفي والاجتماعي، فإن ظاهرة الحب عن بُعد كما يصفها أوليش بيك، لم تخلق سوى الفوضى والتراجيديا، التي تتجلى في الكثير من المظاهر مثل الأسرة المعولمة، حيث كل طرف ينتمي إلى دولة وثقافة مغايرة، أو الزواج من أجل الهجرة إلى الدول المتقدمة، فالأسرة اليوم لم تعد تضم أطرافاً ينتمون لإطار معيشي واحد، كما لو أننا أمام نوع جديد من الأسرة، تتأسس على ما يسميه اولريش بيك «هوية معولمة»، والنتيجة هي ضياع مفهوم الحب وتغير معناه، لقد أصبحت كلمة أحبك يقول الكاتب ساخراً هي «سأمحو كل ما في صندوقي البريدي من أجلك» (ص 87)، الحب في عالم السيولة.
هذا التشرذم الاجتماعي، والتفكك في الروابط العاطفية، هو ما يسميه باومان بالسيولة، فبعد مرحلة الحداثة الصلبة، التي كانت تحاول بناء كل شيء بشكل مستقر ودائم، جاءت المرحلة الجديدة التي نعيشها، والتي سيتبخر فيها كل ما هو صلب، وسيفقد العالم معناه، كي يرزح تحت سلطة قانون واحد هو قانون السوق، بمعنى أن كل شيء بما فيه العواطف والمشاعر الإنسانية، تم تبضيعه وتحويله إلى سلعة.

علاقات عابرة
يشير باومان إلى أن ما يبحث عنه الإنسان المعاصر، هو العلاقات العابرة والنزوات اللحظية، لذلك فهو يخشى الحب، لأنه يخاف من ضغوطه وارتباطاته الدائمة، فهو لم يعد قادراً على تحمل كل هذه الأعباء الثقيلة، في زمن أضحى فيه كل شيء خفيفاً وعابراً.. هكذا تتأرجح مشاعرنا في تمزق داخلي يصعب البوح به. يقول باومان «لقد صارت العلاقات نعمة ونقمة، إنها تتأرجح بين الحلم الجميل والكابوس المفزع» (ص 28)، نستطيع إذن أن نميز بين الحب كما عرفناه سابقاً، والحب الذي يعرضه علينا عصرنا، لقد كان النوع الأول ينتمي إلى دائرة الأخلاق والالتزامات، التي تفضي ضرورة إلى خلق روابط اجتماعية أسرية، أما النوع الثاني فهو ينتمي إلى دائرة لعب الحظ، التي علينا دوماً أن نستمر في تجريبها، في سبيل البحث عن إشباعات أفضل ومغامرات جديدة، حالنا في ذلك كحال دون جوان الذي لا يفرغ من علاقة، إلا ليبحث عن أخرى، إن النتيجة العامة لكل هذا هي أن الحب المعاصر لم يعد عاطفة راسخة، بل مجرد علاقات هشة آيلة للسقوط في كل لحظة.

نهاية الحب
العديد من المنظرين، سواء في علم النفس أو علم الاجتماع، يؤكدون اليوم على أن الشيء الوحيد الذي يحبه الإنسان المعاصر بحق، هو الشيء الميت، الشيء الفاقد للحياة وهو ما يسمى في الطب النفسي بـ«النيكروفيليا» بمعنى أنه يحب البضاعة، بل أكثر من ذلك هذه الأخيرة، لم تعد مجرد شيء عيني ملموس.. إن العلاقات الاجتماعية والعواطف البشرية ذاتها تم تسليعها وتحويلها إلى بضاعة، خذ على سبيل المثال مواقع التعارف التي تحدد لك بالضبط ما هي مواصفات الشخص الذي ترغبه، وبالتالي فهي تسمح لنا أن ننتقي شريكنا، كما ننتقي البضاعة في السوق، إن الحب كلمة تخفي خلفها عمقاً إنسانياً، ومنظومة أخلاقية متكاملة من المبادئ، المسؤولية، الإخلاص والالتزام، لكن كل هذا اضمحل في عصر السيولة، فما نبحث عنه هو العابر وليس الدائم، إننا نميل إلى تغيير علاقاتنا كما نغير ورق الكلينكس. وإذا كان اولريش بيك قد نظر إلى الحب عن بُعد، كحب تفصل بينه وبين تحققه المسافات الطويلة بين البلدان والقارات، وبالتالي فهو حب يظل كما يقول «بلا معاشرة جنسية» في حدود الدردشة والكلام، فإننا نرى عكس ذلك أن هذا الحب النائي، قد تحول في الكثير من الحالات إلى حب داني، وأفضى إلى الخيانة وإلى الكوارث الاجتماعية والأسرية.
ما هو مؤكد إذن، هو أن ثمة تغيرات جذرية عميقة تقلب كيان الإنسان عاطفياً واجتماعياً، فهل ينبغي أن نستنتج من هذا التغير نهاية الحب وموته كما تتنبأ الباحثة إيفا اللوز (Éva Illouz)؟، ألا يمكن أن يكون الاحتفال بعيد الحب نوعاً من أنواع البكاء على الأطلال؟.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©