الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

القراءة.. وادعاء المعرفة!

القراءة.. وادعاء المعرفة!
23 سبتمبر 2021 01:20

د. مياسة سلطان السويدي

قراءة الكتب تشحننا بالمعرفة وتدفعنا إلى التفكير، فنحن نقرأ مراراً وتكراراً ولو بغير علم، بحثاً عن عقل أكثر أصالة من عقولنا، والمثقفون يعرفون أن الثقافة هي مسألة توجه، فأن تكون مثقفاً لا يعني أن تكون قد قرأت كل الكتب، بل أن تملك القدرة على إيجاد طريقك في كتاب قد لا يفترض بك أن تقرأه كاملاً، فالكتب تزودنا بالعناصر التي تنقص شخصيتنا أو تثبت وجهة نظرنا من خلال المقاطع التي نقتبسها ونستدل بها.
يقول فرانز كافكا الكاتب السوداوي العظيم في رسالة إلى صديقه أوسكار بولاك 1904 «على المرء ألا يقرأ إلا تلك الكتب التي تعظه وتخزه، إذا كان الكتاب الذي نقرؤه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا فلماذا نقرأ الكتاب إذن؟، كي يجعلنا سعداء كما كتبت؟ يا إلهي.. كنا سنصبح سعداء حتى لو لم تكن عندنا كتب»! فالثقافة الحقة تنزع إلى استيعاب الكل لا مجرد مراكمة للمعارف والمعلومات التفصيلية، وقد يسكننا الشغف بقراءة الكتب ولكن قد نشعر بالذنب لعدم قدرتنا على قراءة كل ما نريد، فالوقت والمشاغل والمُلهيات من حولنا قد تستحوذ على جل أوقاتنا، وأعتقد أن القراءة بصورتها التقليدية التي ينظر فيها بنوع من التبجيل توشك على الانقراض، فقد اتجه كثيرون إلى وسائط القراءة الإلكترونية التي تستهوي فئة الشباب بشكل أكبر، والتوجه إلى قراءة الملخصات التي تختصر الكتب بصورة قد تخل بجودتها في بعض الأحيان. هذا فضلاً عن فكرة أن عملية القراءة ذاتها حتى وإن أنفقنا فيها حياتنا كلها ستبقى مفتوحة على أفق لانهائي، بالنظر إلى كل الكتب التي سنظل جاهلين بها إلى الأبد.
كلما لامست في نفسي فتوراً أو بعداً عن القراءة، تناولت أحد الكتب التي تستعرض أهمية وضرورة القراءة لأشحذ همتي، وأعود للغرق في صفحات الكتب، وخلال بحثي اعترضني عنوان مستفز وغير تقليدي لكتاب مختلف بعنوان «كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟» للكاتب الفرنسي بيير بايار، وقد ترجمه إلى العربية غسان لطفي، وعنوان الكتاب بحد ذاته كافٍ لإثارة المزيد من التساؤلات، فما الذي قد يدفعنا للحديث عن كتب لم نقرأها؟ وما هي الحاجة إلى الادعاء الكاذب بالقراءة؟ لكن حالاً خطرت في ذاكرتي نماذج كثيرة تدعي المعرفة وتخدع الآخرين وتزعم قراءة كتب كثيرة لإضافة نوع من الوقار الثقافي إلى صورتها الاجتماعية، في حين أن قراءتهم قد تقتصر على مطالعة الفهارس وربط المحتويات بالسياق العام للموضوع. أو ربما اكتفوا بقراءة الملخصات المحدودة أو سمعوا نقاشاً عابراً عن كتاب ما ولم يمنعهم عدم الاطلاع على الكتاب من مشاركة أفكارهم، ومثال على ذلك أمين المكتبة الذي لا يقرأ محتوى الكتب في مكتبته بل يهتم بالفهارس والعناوين والتصنيفات التي هي مجرد قوائم لا علاقة لها بمحتوى الكتاب الحقيقي.

اكتشاف الذات المبدعة
ومؤلف الكتاب بيير بايار، أستاذ الأدب في جامعة باريس ومحلل نفسي، وله العديد من الكتب المثيرة للجدل التي يجسد فيها رؤيته الفريدة للأمور، وهو رجل متبحر في القراءة والأدب وكاتب في ذات الوقت، فكيف تكبد عناء تأليف كتاب ينصح فيه بعدم الإفراط في القراءة، بل إنه يدعو إلى عدم القراءة أصلاً، حيث يدعو الكاتب إلى التخلي عن فكرة تقديس الكتب، ويهدم بعض الاعتقادات التي تتعلق بالقراءة، فهذا الكتاب يتحدث عن مغامرة الحديث عن كتاب لم تقرأه في الأوساط الثقافية، ويدعونا إلى عدم الشعور بالذنب لعدم قراءة كل الكتب في مكتباتنا، بل وأكثر من ذلك فهو يدعونا إلى الحديث عن تلك الكتب التي لم نقرأها أصلاً بغض النظر عن أي غاية أو تبرير، لأنه يعتقد أنها فرصة ممتازة لاكتشاف الذات المبدعة بداخل كل منّا. ويطالب بتحرير القارئ من نص الكاتب وإزاحة ثقل كلمات الآخرين عن كاهله، لأنه باختصار يبحث عن تلك القوة لإبداع النص الخاص بكل قارئ ليصبح كاتباً بدوره، فالهدف تحرير الإمكانيات الموجودة في كل فرد مع العلم أن قله قليلة هم من سيصيرون كُتّاباً.
وأن تكتب بعد أن كنت مجرد قارئ هو تحرر وفعل يحتاج إلى الكثير من الشجاعة، في حين أن الإفراط في القراءة قد يحرمك من إمكانية أن تكون كاتباً أصيلاً، لأنك حين تقرأ فقط دون إبداء رأيك تبقى تابعاً للكاتب، وهذا ما يذكرني بأسلوب كتابة البحث العملي والكتابة الأكاديمية حيث تكمن قوة بحثك من خلال الاستشهاد بما سبق ليكون الاقتباس سيد الموقف، إلى أن يصبح بحثك أو ورقتك العملية اقتباساً واستشهاداً لبحث آخر من بعدك ويتكرر اسمك في قائمة البحوث والمراجع، وتحتار حينها بين الاقتباس والاقتباس الذاتي أيهما أهم وأقوى في الاستشهاد، لتدرك بعد حين أن موقع السلطة هذا هو عامل رئيس في حديثنا عن الكتب، وأن أبسط اقتباس نقتبسه من كتاب هو في أغلب الأحيان وسيلة لنثبت بها حجتنا أو نبطل حجة غيرنا.

المكتبة الجماعية
وفي دعوته إلى عدم الإفراط في القراءة يسهب الكاتب في فكرة أن لا ضرورة البتة لقراءة الكتاب من أجل أن نكوّن فكرة دقيقة عن محتواه ونتمكن من الحديث عنه، ويعلل ذلك بأنه لا وجود لكتاب معزول عن غيره من الكتب، فكل كتاب هو عنصر من مجموعة يسميها المؤلف المكتبة الجماعية، والتي لا يجب معرفتها بالضرورة لتقييم أو تقدير هذا العنصر تحديداً، وعلينا التجاوز عن فردية الكتاب والتركيز على النظرة الشمولية التي تهتم بعلاقة الكتاب بغيره من الكتب، والبحث بين الروابط والصلات بينها، فأنت حين تستعرض مجموعة الكتب التي قرأتها بالفعل وتكتشف أنك نسيت أجزاء منها وهذا طبيعي، فهل يعني ذلك أنك قرأت الكتاب الذي نسيته قراءة إحاطة؟ ويقول: «ينبغي إذاً لكي نتمكن من الحديث عن الكتب التي لم نقرأها دون خجل أن نحرر أنفسنا من تلك الصورة الطاغية، صورة الثقافة الكاملة التي نقلتها إلينا وفرضتها علينا العائلة والمؤسسات المدرسية، التي لا نكف طوال حياتنا عن السعي، عبثاً، إلى التماهي معها، فالحقيقة الموجهة للآخرين أقل أهمية من حقيقة الأنا، التي لا يصل إليها إلا من تحرر من نير الضرورة التي تُكرهنا على أن نظهر أمام الناس بمظهر الثقافة والتي تعذبنا في أعماقنا وتمنعنا من أن نبقى على طبيعتنا ونكون ما نحن عليه حقاً»، فهو يؤكد على أن القراءة مصطلح مطاط وليس له معنى محدد واضح وصريح، ويشرح الفرق بين القراءة واللا قراءة وعدم القراءة.

التعايش مع الكتب
والقراءة تعني أن تمضي وقتك مع الكتاب من الغلاف إلى الغلاف، أما اللاقراءة فهي التعرف على فكرة الكاتب دون الحاجة إلى قراءة الكتاب كاملاً، وتقتصر قراءتك على مقتطفات كافية لتكون الفكرة العامة لموضوع الكتاب، أو ربما تعتمد على ما قرأته لنفس الكاتب سابقاً، في حين أن عدم القراءة يختلف عن النوعين السابقين في الابتعاد عن الاهتمام بالقراءة بشكل عام.
ويحذر بيير بايار في كتابه من الوقوع في فخ الغرق في كتب الآخرين، فالكاتب إنسان بسيط يمارس سلطته في تدفق الأفكار والمشاعر، وقد لا يكون حيادياً تماماً، بل يكتب لأنه يرغب بالتعبير عن رأيه وفكرته حتى وإن لم يكن ملمّاً بكامل الموضوع الذي يكتب عنه، وهو ليس بأفضل من القارئ بأي حال، فهو فقط امتلك الأدوات التي جعلته يتمكن من كتابة نظرته وتجربته وعلمه، فعلينا كقراء ألا نكون سجناء النص ويكون لنا القرار في تقبل هذا التدفق الفكري وتحليله، وربما رفضه.
ويهدف الكاتب إلى دفع القارئ إلى الحياة مع الكتب بدلاً من قراءتها، والاستمتاع بالنص الأدبي فأي كتاب متصل بالسياق العام وبما سبق كتابته من كتب في ذات الموضوع، واستعمال الكتب، بتعبير أمبيرتو إيكو، أن تحيا مع كتاب، ومعناه أن تتخذه رفيقاً يؤنسك وتتعلم منه لا أكثر. وأن تحيا مع الكتاب معناه أيضاً ألا تدع الكتاب يحول بينك وبين الإفصاح عما في داخلك والتعبير عن ذاتك والبحث عن الإلهام داخل نفسك، فمن المهم ممارسة حرية الرأي والمقاربة بين الكتب مع رفع المحظورات إن وجدت.

خيانة الذاكرة
ولعل أحد الأسئلة الجوهرية في كتاب بيير بايار: هل الكتب التي سبق وقرأناها وسقطت من ذاكرتنا تظل محسوبة في قائمة الكتب المقروءة؟.. إن فعل القراءة مهما صاحبه من تحصيل للمعارف إلا أن النسيان وارد، بل وأكيد رغماً عنّا. شخصياً أكثر من مرة وجدتني أتصفح كتاباً وأجد تعليقاً على أحد حواشي الكتاب أو ملاحظات بخطي تثبت مروري يوماً ما ولكني لا أذكر من المكتوب شيئاً البتة في تلك اللحظة! ولهذا يجب أن نطرح سؤالاً مهماً، كيف يختلف حال هذا الكتاب المنسي عن أي كتاب آخر لم نقرأه من الأساس؟ وهل هناك طريقة مثالية للقراءة؟ أسئلة كثيرة ناقشها العديد من الكتاب مثل كتاب هارولد بلوم «كيف نقرأ ولماذا؟»، وكذلك ألبرتو مانغويل في «تاريخ القراءة، ذاكرة القراءة، يوميات القراءة»، ودانيال بناك «متعة القراءة»، وهنري ميلر «الكتب في حياتي» وغيرها الكثير، فلكل منهم أسلوبه وطريقته وأسبابه الخاصة للقراءة. وقد نصح كثير منهم باتباع أساليب فعالة للقراءة مثل تدوين الملاحظات وربما الملخصات عن الكتب، بالإضافة إلى أهمية كتابة رأيك الشخصي وانطباعك عن الكاتب والموضوع والترجمة إن وجدت، بالإضافة إلى مشاركة غيرك من القراء والمهتمين بمعرفة المزيد.
والحال أن كل ما سبق يأخذنا إلى تساؤل أهم، ما هي الثقافة؟ هل تشبه الصورة النمطية التي فرضتها العائلة والمؤسسات المدرسية، والتي نسعى دائماً وعبثاً إلى التماهي معها؟ الموضوع شائك وكبير وقد لا يكفي هذا المقال للحديث عنه، ولكن من الضروري العمل على نزع القداسة عن الكتب واستحضار الذات الحقيقية في كل ما نقرأ دون الحاجة إلى التصنع أو التشبه بالصورة النمطية المعتادة، والأهم من ذلك  عدم تصنع الثقافة والبقاء على طبيعتنا وما نحن عليه حقاً مع الاستمرار في التنزه بين الكتب وقطف أجمل ثمارها، وأن تكون القراءة من أجل المتعة وهي أهم ما يمكن أن تمنحنا إياه الكتب دون الحاجة إلى الادعاء أو الاستعراض بزعم قراءة كتب لم نقرأها ليكون الكتاب بداية الإبداع الخلاق.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©