الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الموسيقى.. معزوفة الحياة

الموسيقى.. معزوفة الحياة
23 سبتمبر 2021 01:14

ترجمة: مدني قصري

الموسيقى هي الفنُّ الأكثر تجريداً، والذي له أكثر التأثيرات الملموسة على نفوسنا: بالأصوات، ولا شيء غير الأصوات، تُغرِق الموسيقى الإنسانَ في غيبوبة، أو تملي وتضبط حركاته، وتجعلنا نرقص أو نبكي انفعالاً.. على وجه التحديد لأنه فنُّ الصوت.. الكونُ الصوتي هو بالفعل عالَمٌ اِنفعالي منذ البداية، لأنّ الوظيفة الطبيعية للأصوات، بالنسبة للكائنات الحيّة هي وظيفةُ إنذارٍ وتحذير.. إنها تُخبِر بما يجري، وتوقِظ في كلّ لحظة نظامَ إنذارها البيولوجي.. هذه التغيرات الدائمة في حالة العالم هي مصدر كل الانفعالات.

فرانسيس وُولف
هناك توتُّرُ الاستماع، الذي يعقبه استرخاءُ العودة إلى الهدوء والانتظام -أو إلى السكون.. تعارضُ التوتر هذا أمام الأحداث غير المتوقعة، وتعارضُ الاسترخاء أمام الأحداث المتوقّعة أو المألوفة هو أساس كلّ انفعالٍ موسيقي.
مع اختلافٍ بسيط، أساسي، عندما نسمع الموسيقى، نكفُّ عن سماع كلّ صوت كصوتٍ ناتج عن سببِه الطبيعي «كما يحدث عندما نتلقّى فجأة تحذيراً من حدث معيّن»، إذ نسمع عمليةً صوتيّة فريدة، كما لو كانت الأصوات ناتجة عن بعضها بعضاً. وهكذا، فإنّ سلسلة صدمات القطار ضدّ القضبان لم تعد تُسمع كسلسلة من التحذيرات «القطار يغادر»، ولكن كإيقاع واحد: تا-تا-تامْ، تا-تا-تامْ ta-ta-tam، ta-ta-tam.. إلخ. تفقِد الأصواتُ قيمتها الوظيفية، فتُسمَع لذاتها، وتكتسب قيمة موسيقية، وبالتالي فإنّ الكون الصوتي يكفي نفسَه بنفسه، فيستغني عن أشياء مرئية أو حتى عن الكلمات، «غالبية الموسيقى المؤلَّفة في العالم مصحوبةٌ بكلمات، ولكن لإبراز القيمة الانفعالية الخاصة بالموسيقى وعدم الخلط بينها وبين قيمة الكلمات، سنذكُر فقط أمثلة من الموسيقى الآلية». ففي كلّ حدث صوتيّ، يمكننا أن نميّز الحدثَ نفسه، وجودتَه «فهو خفيض أو عالٍ، على سبيل المثال»، ولكلا الجانبين آثار مميّزة علينا: آثار جسدية أكثر في حالة معيّنة «تأثيرات «حركية»، أو أكثر روحانية في حالة أخرى «تأثيرات انفعالية».
والموسيقى قد تجعلنا نتحرّك إذا كان تسلسلُ الأحداث منتظماً: نبضٌ على سبيل المثال (بُومْ بُومْ بُومْ pom-pom-pom)، أو ميزان (بُومْ-بُوبُومْ، بُومْ-بُوبُومْ pom-popom، pom-popom)، أو إيقاع (سلسلة منتظمة من الخلايا غير المنتظمة، تاغادا-تسوان-تسوان، تاجادا-تسوان-تسوان tagada-tsoin-tsoin، tagada-tsoin-tsoin). سنضرب بأقدامنا، ونُصفّق بأيدينا، نترحك بمفردنا، بل ونرقص رقصاً ثنائيًا إذا كان الميزان واضحاً ويَسمح لكل راقصٍ بِتوقّع حركات شريكه الراقص الثاني.

موصوفة وغير موصوفة
وحتى لو كانت التأثيرات الجسدية والانفعالية مختلطة في كثيرٍ من الأحيان، فإنّ التأثيرات الانفعالية الخالصة تكون ناتجة عن الصلات بين مستويات النوتات الموسيقية وعن تأثيراتها اللحنية أو التناغمية، ويتعين هنا أن نميّز بين نوعين رئيسيّين من الانفعالات الموسيقية: الانفعالات «الموصوفة» (الحزن، والبهجة، والصفاء، والقلق، والغضب، وما إلى ذلك) والانفعالات «غير الموصوفة» («هذه الموسيقى تهزّني»).
أمّا الأولى فقد تمّت دراستُها لفترة طويلة من قِبل علماء النفس، لقد أبرزوا العلاقة بين العوامل الموسيقية المختلفة (درجة السرعة tempo بطيئة أو سريعة، إيقاع منتظم أو غير منتظم.. إلخ)، ومختلف المناخات العاطفية، فهناك شمولية عابرة للثقافات للانفعالات الأساسية، والتي يحدّدها تعارضان اثنان وهما التأثير (مرح/ حزين) والديناميات (مضطرب/ هادئ)، وكذلك من خلال مختلف تآلفاتها.
والانفعالات الموسيقية غير الموصوفة تكون أقل وضوحاً عند النظرة الأولى، فلنقصِ أوّلاً الانفعال الذاتي (غير الموضوعي)، الانفعال الذي تثيره الموسيقى لدى هذا الشخص أو ذاك لأن الاستماع إليها مرتبط بتجربة معيشة، فهذه ببساطة ناتجة عن عمل ذاكرة ترابطية: «هل تسمعين يا حبيبتي؟ إنها أغنيتنا!»؟
أما الانفعال الجمالي الخالص، فهو الانفعال الذي تثيره فينا موسيقى بعينها، أحياناً، عندما نكتفي بالاستماع إليها لنفسها، فهو يثارُ فينا لأننا، مثلاً، نسمع فيها ما نُسمّيه عادة بـ«جمالها». وفي كثير من الأحيان يختلط هذان النوعان من الانفعال، الموصوف وغير الموصوف: نستمع بتلذّذ لموسيقى جميلة وحزينة، مثل متعة الدموع المنعشة.

تعبيرية الخط اللحني
خيمياء الانفعال الجمالي تختلف باختلاف ألوان الموسيقى، وبحسب الأذواق أو الحالة المزاجية لكل واحد، ومع ذلك، هناك ثوابت، لا يوجد انفعالٌ موسيقيّ من دون موقفٍ جمالي، يجب أن تكون «كلّك آذاناً صاغية»، و«لا شيء سوى الإصغاء»، إذا جاز التعبير، وعندئذ يمكن أن ينشأ الانفعال من الانتباه إلى تعبيرية الخط اللحني، فنسمع أحياناً شبه صوت يتحدّث إلينا، صوت يبوح، صوت يسأل، باختصار صوت يُعبّر عن مشاعره الشخصية (وفقاً لنظرية تعود إلى روسو)، في الموسيقى الكلاسيكية، غالباً ما يكون ذلك جزءاً من المؤدي، توقّفاته غير المحسوسة، أو تسارعه، تصعيدُه للصوت وتناقصُه، لهجاتُه، باختصار طريقته في «التقطيع». لكنّ ألواناً من الموسيقى غير «التعبيرية» يمكن أن تكون مثيرة من الناحية الجمالية: فمتعة تسلسل (تتابع) الأنغام تنشأ من الفهم السمعي لتشابك آلاف العِلِّيّات (السببيات) الداخلية المتشابكة فيها، ومن التعرّف على نفس الفكرة التي تعود، متغيّرة بشكل أو بآخر، ومعدَّلة، كالطفل الذي كنا وهو يتعرف بانبهار على عودة نغمة مألوفة.

موسيقى «محلقة»
الموسيقى عبارة عن سلسلة من الأحداث المترابطة التي نسمعها كما هي. هناك إذاً نوعان. تلك التي يمكننا أن تسميتها «ساعاتية»، أي التي تميل نحو الاستقرار، وإعادة إنتاج نفسها، والتي يميل مناخها إلى تقليل التوترات الداخلية حتى لا نضطر إلى تهدئتها باستمرار.. والانفعال الذي تخلقه هو ذلك الذي نختبره عندما نشعر بأننا متناغمون مع عالم نرغب في إيقاف مساره حتى نتمكن من مشاهدته وتأمله.. إنه، على سبيل المثال، مناخ بعض موسيقى الراجا raja (التي يُعبِّر فيها لحنٌ رتيب على الأرغن عن الدوام المأمول)، أو الترانيم الغريغورية، أو بعض الموسيقى الإلكترونية «المحلقة» (التي تجعل السامع يحلق)، أو موسيقى أرفو بارت Arvo Pärt (ملحن إستوني كلاسيكي من أشهر ملحني الموسيقى الدينية منذ أواخر السبعينيات).

توترات داخلية
المشاعر الجمالية العادية تنتج عن ألوان موسيقية يمكن تسميتها بـ«الديناميكية الحرارية»؛ لأنها، على العكس، تميل إلى خلق توترات داخلية باستمرار من أجل تهدئتها، وبالتالي تغذية حركتها، وهذا هو الحال مع معظم الموسيقى الغربية أو الأفريقية، سواء كانت نغمية أو نمطية، عِلميّة أو تراثية.. ويتكوّن كل جزء من الخطاب الموسيقي من التوترات (التوافقيات، واللحن، والإيقاع) مما يؤدي إلى الاسترخاء (وترٌ مثالي، ومنشط، ونبض، وتكرار، وما إلى ذلك).. التوتر هو الجزء غير المتوقع من الموسيقى.. يهدئ من خلال العودة المتوقّعة إلى قاعدة مطَمْئِنة.. يمكن إدراج كل تعارض «استرخاء توتر» في تعارض «استرخاء توتر» آخر، بحيث نتوقع في الجمل أو الحركات المعقدة، استرخاءً مدعوماً بتوترات أخرى، ينشأ الانفعال الموسيقي من تصور كل هذه التوترات المؤجَّلة، لأن الموسيقى التي لا يمكن التنبؤ بتسلسلها بشكل مطلق ستظل غير شفافة بالنسبة لنا: لن تُسمَع إلا على شكل سلسلة فوضويّة من الأصوات، وفي المقابل، الموسيقى التي يمكن التنبؤ بها لا تُسبّب لنا أي انفعال: الأغنية الفرنسية الشهيرة «فرير جاك» (Frère Jacques) أحببناها... منذ زمن بعيد. واليوم، لا شيءَ يَحدث..!
فعلى هذا النحو نجد في فنّ الأصوات التنوّع اللامتناهي للمشاعر والانفعالات التي يمكن أن تُسبِّبَها لنا الأحداثُ الحقيقية، منقّاة من واقعها، ومُجَمَّلَة بقوّة الفنّ.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©