الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

د. عبدالله الغذامي يكتب: سياسة القول أخطر من القول

د. عبدالله الغذامي يكتب: سياسة القول أخطر من القول
18 سبتمبر 2021 00:11

كان الجاحظ قد قال: إن سياسة البلاغة أشد من البلاغة، وهو يشير إلى حاجة اللغة للإدارة والتنظيم، وهذا ما يحيل إليه القول القديم «لكل مقام مقال»، وهذه قواعد عامة تتحكم في نظام توظيف اللغة وتوظيف بلاغة القول، والمسألة تتسع لحالات القول بعامة، وإن تعوّد الشعراء على معاناة القول، وفي ذلك قصص مرعبة لدرجة أن الجواهري كان يروي أنه يتعرض لحالة من الجنون حين يدخل في مشقات القول وتحاصره القصيدة متحديةً راحته ومتأبية عليه في الوقت ذاته.
وفي التراث قصص عن الفرزدق وعن جرير تشير بعضها إلى أن جرير كان يمترغ في الصهريج حين يدخل في نوباته الشعرية. وقال الفرزدق: إن قول بيتِ من الشعر أشد عليه من خلع ضرس.
والأمر هذا لا يقف عند الفن والشعر، بل يصل للفلسفة، فكانط مثلاً عُرف عنه أنه رجل سلس في لغته ومحاضراته ومناقشاته، لكن كتابه «نقد العقل الخالص»، جاء معقداً وعنيداً على الفهم وفي ذلك قصص مثيرة عن معاناة طلاب الفلسفة مع الكتاب، سبق أن عرضتها في توريقة سابقة، ومثله هيجل الذي يقول عنه برتراند راسل: إنه أشد الفلاسفة الكبار تعقيداً، واضطر راسل للاستعانة بشراح نظريات هيجل عن «المطلق» لكي يعرضها بأسلوب بذل فيه راسل جهوداً مكثفة لكي يلين عريكة القول، على أن كانط وهيجل معاً في حاليهما هذه يثبتان حال القول مع سياسة القول، وذلك حين تكون الفكرة عصيةً على الفيلسوف رغم قناعته بوجاهتها، لكن تعصّيها يظهر على طريقة عرضه لها، وإن كان ماهراً باللغة ومتخصصاً في الحقل المعرفي كمهارة الشاعر في الشعر الذي تعتريه قصيدة تعاند مهارته، وكذا حال الفيلسوف الذي كانت تنتاب نيتشة بلوثات من الجنون مع صداع يفتك به ويطرحه صريعاً كحال الصداع الذي أصاب قراء كانط، وأصاب راسل مع هيجل.
هنا تحضر حال التأزم بين القول وسياسة القول، وهي التي جعلت هنري ميشو يصرخ: أيتها البساطة الجميلة كيف لم أكتشفك، وذلك لأن تحويل المعقد إلى بسيط عملٌ شاق حد الجنون، وكلما عظمت الفكرة تعقدت وستحتاج لما وصفه السياب في معاناة القول:
‏جنازتي في الغرفة الجديدة
‏تهتف بي أن أكتبَ القصيدة
‏فأكتبُ....
‏ما في دمي و أشطبُ
‏حتى تلين الفكرة العنيدة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©