الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جاك رانسيير وسياسات الكتابة

جاك رانسيير وسياسات الكتابة
16 سبتمبر 2021 01:13

محمد نور الدين أفاية

تحتل السياسة مكانة مركزية في فكر الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير، حيث يُدرجها في تحليله للظواهر التاريخية، ويستدعيها وهو يعالج إشكاليات الكتابة، سواء الروائية، والمسرحية، والشعرية، أو السينمائية، ويستحضرها حين يتناول الجماليات في تجلياتها المتنوعة. في مقال له بعنوان «سياسات الكتابة» نشره سنة 1996 طرح رانسيير ما يثبت، في رأيه، العلاقة العضوية بين أنماط الكتابة، ولاسيما الأدب، والاعتبارات السياسية. وقد انطلق فيه من سؤال واضح صاغه بالشكل التالي: «ماذا يعني الأدب، باعتباره أدباً، بالنسبة للسياسة؟»، أي تلك الكتابة الأدبية التي تعبر عن صورها، ووقائعها، وشخوصها في استقلال نسبي عن العناصر الإيديولوجية التي يمكن للكاتب أن يعبر عنها، أو يجهر فيها بموقفه بخصوص الإبداع الأدبي الذي يندرج، بالضرورة، في علاقة ما مع السلطة السياسية.
ويرى رانسيير أن كل حديث عن الأدب، بالمعنى القوي للكلمة، يجب ألا يقتصر على إنتاجات فن الكتابة، وإنما يتعين النظر إليه باعتباره نمطاً جديداً لهذا الفن كقوة غير مقيدة بالقواعد الكلاسيكية للتمثُّل، ويقصد بقوة الفن تلك الكفاءة الاستثنائية التي تمتلك جاهزية دائمة للبرهنة على ذاتها من داخلها.
وفي أكثر من مؤلف وسياق يجد رانسيير نفسه، وهو يتناول العلاقة بين الأدب والسياسة، يستدعي حالة جوستاف فلوبير باستمرار، إذ يرى فيه منعطفاً كبيراً في تاريخ الكتابة عامة، والأدبية منها على وجه الخصوص. إنه يمثل نموذجاً لمفارقة لافتة باعتبار أن مؤلفاته وأدبه تشهد على تعاطف منقوص مع الديمقراطية، ولكنه بدا، لأغلب من تناول أعماله أنها، على العكس من ذلك، شاهدة على توغل الديمقراطية في الأدب. ويعتبر رانسيير أن فلوبير مارس الديمقراطية بوساطة كتابته من دون أن يعرف ذلك.
ولا يتعلق الأمر بإظهار أشياء لم يكن المؤلف يسعى إلى إظهارها، وإنما بكتابة تنفي ذاتها وتتشابه بالضبط مع ما يعارضها. فبفضل الجانب الأكثر أرستقراطية في مشروع كتابة فلوبير حصل ما يشبه التماهي مع نقيضه، أي اللامبالاة اتجاه الديمقراطية، أو التحفظ عن حركتها. ذلك أن فلوبير وجد نفسه، ومنذ الرومانسية، إزاء ثورة متقدمة تمثلت معالمها في تكسير الأنواع التقليدية، وخلخلة التراتبيات بين الموضوعات المتمثلة، والأساليب التي تلائم هذا الموضوع أو ذاك.

الأسلوب والتمثُّـل
اشتهر فلوبير بقوله إن «كل شيء في الأسلوب»، بل كان يعتبره روح الكتابة، وبوصفه كذلك فإنه يتناقض مع آليات التمثل. وقد فتح هذا الانزياح المفصلي الذي اجترحه فلوبير في تاريخ ممارسة الكتابة آفاقاً لم يكن يتوقعها، هو نفسه، أو حرص على التمهيد لها ببيانات نظرية، ما دام الأمر يفترض استدعاء أولوية الأسلوب باعتباره وجهة نظر حول ما هو متمثل Représenté، وإذا كان قاموس الشعرية الكلاسيكية منح الأسبقية للمنطوق أو الملفوظ على حساب تدخل الذات وبناء الحكاية، فإن الأسلوب، عند فلوبير، أصبح هو ما يشكل روح السرد والكتابة.
يرى رانسيير أن مسألة الكتابة في علاقتها بالأدب والسياسة تفترض استدعاء السؤال السارتري: «ما هو الأدب؟»، ففي تحليله لأبعاد السؤال يقيم سارتر تعارضاً بين طريقتين في معالجة الكلمات: هناك ما يسميه بالمبدأ الأدبي الذي يقضي بكون الكلمات تعالج بوصفها أدوات تساعد على الكلام، وعلى كشف أشياء عالم يتقدم بوصفه موضوعاً للممارسة الإنسانية، وعلى إقامة تواشجات وتعاقدات من أنماط ممارسات متغايرة للحريات، ومن جهة ثانية هناك المبدأ الشعري poétique حيث يحصل فيه استعمال الكلمات مثلما يستعمل الرسام ألوانه.

ويلاحظ رانسيير أن سارتر في دراسته عن فلوبير في كتابه «مُغفَّل العائلة»، ذهب إلى أن هذا الكاتب انحرف عن شروط الالتزام الأدبي بكشف العالم، وأن تقديسه للفن يعبر عن محاولة نسقية لتشييء اللغة التي تندرج، هي بدورها، فيما يسميه سارتر بـ«العَدَمية الكبيرة» لنخب النصف الثاني من القرن التاسع عشر، التي استبطنت المشروع البورجوازي للاستغلال الكلي للعالم من خلال تحويله وتغيير اتجاهاته.

العيب المزدوج للكتابة
وفي بحثه الحثيث عما يسميه «سياسات الكتابة» يعود رانسيير إلى المفارقة التي تتضمنها محاورة «فيدر» لأفلاطون بخصوص العيب المزدوج للكتابة، فهي تجمع، في نظره، بين كونها صمَّاء بقدر ما هي ثرثارة جداً، فمحاورة أفلاطون لا تُعين عيوب الكتابة فقط أو تبرز مظاهر النقص في الكلام المكتوب قياساً إلى الكلام المنطوق الحي، بل تمنح الكتابة طابعاً رمزياً ممتداً في الزمن، وتجعل من هذا الطابع خاصية دائمة تعبر عن اختلال في الخطاب الذي يطابق اختلالاً أعظم منه يتمثل في النظام الديمقراطي. هكذا يفترض النظر إلى الكتابة باعتبارها تُدخل اللاتناسق dissonance في سمفونية الجماعة كما ينظر إليها أفلاطون، باعتبارها تجسيداً لانسجام ما بين أنماط الفعل والوجود والقول.
ولا تقتصر الكتابة، في تصور رانسيير، على الصياغة المخطوطة للعلامات لأنها تكثف أكثر مما تسمح به الكلمات، فهي ترسم نوعاً من علاقة الأجساد بأرواحها، والأجساد فيما بينها، بل وتعبر، في العمق، عن روح الجماعة. ولذلك تدل الكتابة، دوماً، على ما يسميه رانسيير بـ«تقاسم الحسي»، وعلى الانشغالات المختلفة التي تجعل هذا الحسي يحضر بأشكال مختلفة في مساحات الوجود.

الاضطراب الشعري
ولعل السؤال الذي يحرك فكر هذا الفيلسوف حول الكتابة يبقى مرتبطاً بالعلاقة التي تحصل بين المعالجة الفلسفية المزدوجة لما يسميه «الاضطراب الشعري» مع المعالجة المُعلقة لاضطراب الكتابة ذاتها. وهنا يعود إلى فلوبير، حيث يرى أن مثال الأدب كما عبر عنه في اكتماله يثبت، بمعنى ما «خراب بناء الآداب الجميلة»، أي زعزعة قواعد الشعرية منظوراً إليها بوصفها معالجة للتخيل الشعري. 
ذلك أن المسألة في منتهى التعقيد لأن عملية تقويض معمار أدبي أو فكري ليست وقفاً عن إعلان نوايا، أو حتى عن وجهة نظر فرد مهما علا شأنه في سماء الإبداع، وإنما تتعلق باللقاء الخاص الذي يحصل بين «منطق التمثل ومنطق الأدبية». وبقدر ما توجد تشققات في الآداب الجميلة وفي قواعد الشعرية يوجد، أيضاً، ما يمكن تسميته بـ«مبدأ واقع التخيل»، أي ما يمنح التخيل مكانة معترفاً بها، والتي بفضلها يتوقف عن أن يكون «ضد» الواقع لكي يصير جزءاً منه، مع امتلاكه لمكان وزمن خاصين به.

الأدبية في رواية «دون كيشوته»
ويشكل التخيُّل، وخصوصاً التخيُّل الحديث، عند رانسيير، عِماد الكتابة، ولذلك لم يكن من المصادفة في شيء استحضار ذلك اللقاء بين ما يسميه بالأدبية والتمثل في رواية «دون كيشوته» لثرفانتس التي يعتبرها إليادة وأوديسة الحداثة. ولا مجال لاختزال حكاية هذه الرواية في الاستيهام الذي يجعل من التخيلات وقائع، طالما أن «دون كيشوته» ينظر إلى الكتب كأنها الواقع، علماً أنه لم يكن يسعى إلى إحلال التخيل محل الواقع بقدر ما كان يتطلع إلى تخريب مبدأ واقع التخيل، وتهديد شرعيته، بل إن جنون دون كيشوته يتمثل في تكسير مبدأ واقع التخيل لتأكيد مبدأ حقيقة الكتاب في جذريته. ولذلك فإن فرادة الأدب لا ترتبط، فقط، بالتحرر «الفرداني» لأنه يرتبط بالقَدَر السياسي للكتابة، وإنما يستتبع هذا الأمر النظر إلى اعتبار أن الأدبية رهينة، في الأصل، بالفوضى التي تتمخض عن التخيل بوصفه فوضى يستمدها من الممارسات الواقعية ومن مختلف أصناف انشغالات المجتمع.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©