الجمعة 3 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

دراساتنا العلمية لليهودية.. رؤية غير متّزنة وخلل منهجيّ

دراساتنا العلمية لليهودية.. رؤية غير متّزنة وخلل منهجيّ
9 سبتمبر 2021 01:31

د. عزالدين عناية

تُشكّل الدراسات اليهودية مبحثاً مهمّاً ضمن الثقافة العربية والثقافة الإسلامية بوجه عام؛ بَيْد أنّ هذه الدراسات لم تشهد العناية اللازمة على مدى القرن الفائت، واعترتها هنّات جمّة. فما العقبات التي حالت دون تطوّر مبحث اليهودية واليهود في الفكر العربي؟ ما من شكّ أنّ الصراع العربي الإسرائيلي قد أثّر تأثيراً واضحاً في نسق تطوّر دراسات اليهودية من الجانب العربي، حتّى ساد، في بعض الأحيان، خلطٌ مشوب بخشية مفادها أنّ دراسة اليهودية وتدريسها مسوّغ من مسوّغات «التطبيع»، وأنّ فتح هذا الباب مدعاة لاختراق ثقافي. ومن جانب آخر، تطوّرت الدراسات العربية والإسلامية لدى اليهود بشكل لا يُقارَن، ولعلّ المتابع للدراسات والأبحاث الأكاديمية المنتَجة في الجامعات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية يدرك حجم هذا الفارق (انظر كتاب أحمد أشقر: الفقه اليهودي المعاصر تجاه العرب، 2018).
كانت أبرز المعوقات الخلط الحاصل بين السياسي والديني في المخيال العربي، ونقصد الإسرائيلي باليهودي، إلى درجة منعت أو حالت تقريباً دون رؤية اليهودية في غياب إسرائيل الحديثة.

  • ‎غلاف كتاب الاستهواد العربي (من المصدر)
    ‎غلاف كتاب الاستهواد العربي (من المصدر)

واستحكمت شبه حالة من العُصابية بالنظر العربي كلّما تطرّق إلى موضوع اليهودية واليهود، تسرّبت إلى جلّ الكتابات التي تناولت مواضيع التراث العبري. فجاءت المدوَّنة العربية تجاه اليهودية هزيلة ومستنسخة لبعضها بعضاً في العديد من المحاور: تدوين التوراة، الإله التوراتي، مفهوم النبوة، مضامين التلمود، الشخصية اليهودية. وأنتج العقل العربي خلالها قراءة في التراث العبري في غياب كليّ تقريباً للتواصل مع المدوَّنة العلمية العالمية. وغلبت على الرؤية العربية نظرة انطباعية، وسمة عاطفية، فضلاً عن هشاشة الطروحات وتناقضاتها الفجّة. وعلى العموم توزّعت الكتابات العربية الحديثة في اليهودية إلى صنفين بارزين:
القراءة الدعويّة، وهي على وفاء صريح وارتباط وثيق بالمنهج الكلاسيكيّ في قراءة دين اليهود. ترى في النقد المتأتّي من رؤى تراثية حافزاً ودافعاً للاستلهام والنّسج على منواله، إلى جانب ما تبنّته تلك القراءة صريحاً من محاور الاستهواد الكلاسيكيّ، من بشارة، وتحريف، وأحكام فقهية، ومواقف عقدية، تتمثّلُ فيها القراءة الدعوية نفسها المستأمَن والمحافِظ على التّواصل بين القديم والحديث في فهم «الذين هادوا»، و«بنو إسرائيل»، كما ترسّخت بشأنهم الأحكام والأقوال والأساطير النابعة من التراث، دون تجديد في القراءة أو نقد أو مراجعة.
القراءة النقديّة، وهي تختلف في منطلقاتها عن القراءة الدعويّة بشكل رئيس، حيث تحاول أن تنطلق من أرضية العلوم الإنسانية ومقرّراتها، عكس السابقة التي هي على وفاء صريح للمدوَّنة التراثية. وتميّزُ هذه القراءة خاصيّة عامّة، وهي عدم التزامها في الحديث عن اليهودية بالرؤى الإيمانية ذات الصّلة بالمبحث، إذ ترتئي عند فهم اليهودية البقاء داخل تحولات التاريخ، وتتطلّع إلى تدشين إجابة ثقافية تقطع مع التعليل الخُلقيّ والغيبيّ. صحيح أن التحليل الميتافيزيقيّ يتراجع مع القراءة النقديّة، ولكنّ هذه القراءة رغم مسحتها «الحداثية» لم نرصد فيها معالم إرساء نظرية مستقلّة، وإنما ترديداً لمقولات مستورَدة، بما يجعلها بمثابة الحواشي والمختصرات لمدرسة النقد الكتابيّ الغربية.وفي المجمل عجزت المقارَبتان، الدعوية والنقدية، عن الخروج بالدراسات اليهودية من التفسير الغيبي والمزاد القومي إلى الحقل العلمي. وعلى العموم ، يلوح جلياً في المقاربتين، الدعوية والنقدية، استحكام الضغائن التاريخية بحقل معرفيّ، كان يُفتَرض أن يكون بعيداً عن التجاذبات السياسية. لم يتميّز فيه الفارق بين أدب الردود من جهة وعلوم دراسة الأديان من جهة أخرى، وهو ما أربك القراءة العربية وحال دون إرساء رؤية متّزنة لليهودية. ويبدو هذا الخلل المنهجيّ في حاجة إلى نقد داخلي للكتابات العربية في موضوع اليهودية واليهود.

الفهم العربي للتلمود
وبناءً على تلك النقائص المنهجية، يطالعنا سؤال مهمّ بشأن الدراسات العربية والتلمود: من أين يستقي العرب فهْمَهم للتلمود، هذا الكتاب المحوري الحاوي لفتاوى الأحبار وتفصيلاتهم بعد غلق نصّ التوراة عن أيّ إضافات؟ نشير إلى أنّ المكتبة العربية إلى غاية عام 2012 كانت تفتقر إلى نسخة عربية للتلمود، إلى حين نشر مركز دراسات الشرق الأوسط بعمّان «التلمود البابلي» في عشرين مجلداً بإشراف الأستاذ عامر الحافي. وأذكر لمّا كنت طالباً في دراسات الأديان في جامعة الزيتونة، أنني كنت ألجأ إلى نسخة فرنسية قديمة في المكتبة الوطنية، وأعرف أن جلّ طلاب الزيتونة ودارسي العلوم الإسلامية في الجامعات العربية في ذلك العهد بالكاد يقرؤون بلغات أجنبية. وربما يعي المتابع للفكر العربي في ما يخصّ اليهودية ما خلّفه كتاب «الكنز المرصود في قواعد التلمود» (1899) من أثرٍ سيّئ على الكتابات العربية. وهو مؤلف لكاتب جرماني يدعى روهلنج، وقد عرّبه يوسف نصرالله أحد النصارى الشوام. فقد أُلِّف الكتاب في حمّى اللاّسامية في أوروبا، وما لها من أثر واضح على بنيته ومضامينه. وقد مَثّل الاستناد إلى ذلك الكتاب مدعاة للضرر بالدراسات العربية الحديثة تجاه اليهودية، وقلّة من الكتّاب تفطّنوا إلى أنّ التلمود هو أرحب مما عرضه صاحب «الكنز المرصود». فعلى سبيل المثال لا يختلف قسمُ المعاملات في التلمود كثيراً عما هو مدوَّن في كتب الفروع من الأحكام الفقهية لدينا. ومن ثَمّ فالتلمود ليس خزّان شرور -كما يُصوَّر- بل تجليات لعقلية دينية سامية.

علم نقد التوراة
ويحيلنا موضوع التلمود إلى موضوع اليهودية والترجمة، فقد مثّلت القطيعة مع دولة إسرائيل، على مدى القرن الماضي، قطيعة مع الفكر العبري بوجه عام، سواء الناشئ منه في إسرائيل أو في الغرب، وهيمن تَوَقّ عُصابي بات يرى في كل ما هو يهودي خدمة لإسرائيل الحديثة، ولذلك غابت في الثقافة العربية محاور كبرى في الفكر اليهودي وشخصيات علمية مؤثرة، في التصوف، والأدب التوراتي، والميثولوجيا التلمودية، وتراث الكابلاه، وحركة الهسكلاه (حركة الاستنارة اليهودية)، والتراث المسيحاني إلى أن نصل إلى الرواية والشعر والدراسات الأدبية. وكانت الترجمة العربية من العبرية تحديداً، تمرّ عبر مقتطفات الصحافة الموظّفة في الإعلام القومي تحت عنوان: «الصحافة العبرية» أو «صحافة العدو»، وغابت المتابعة الرصينة لِما تنتجه الجامعات العبرية داخل إسرائيل أو في الدوائر البحثية المرتبطة بها في الخارج. في حين جاءت الكتابات المترجَمة بشأن اليهودية والتراث العبري من اللغات الغربية منتقاة وأيديولوجية، وغير مواكبة لنسق الأبحاث العالمية حول اليهودية. فقد نشأ القارئ العربي في ظلّ ثقافة تردّد يومياً مفردة إسرائيل، ولكن دون دراية بالأرضية الثقافية والدينية التي تقف عليها سوى ما ترسّب من معارف تراثية باتت غير كافية أو متجاوزة.
نشير إلى هذه المعوقات أمام الدراسة العلمية لليهودية، رغم أنّ العرب كانوا من الرواد في «علم نقد التوراة» مع ابن حزم الظاهري، وعزرا الغرناطي، والسّموأل بن يحيى المغربيّ، وإسرائيل بن شموئيل الأورشليمي، وغير ذلك مما يشار إليه اليوم بـ«النقد الحديث للكتاب المقدّس».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©