الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ثيودوراكيس.. وداعاً موسيقار الحرية

ثيودوراكيس.. وداعاً موسيقار الحرية
9 سبتمبر 2021 02:11

إميل أمين

ذات مساء حزين من شهر يناير من عام 2013، حين أرادت جماعة «الإخوان المسلمين» اختطاف مصر، تظاهر المثقفون أمام مبنى وزارة الثقافة، على كورنيش النيل في منطقة الزمالك الراقية، رافضين قرارات وزير الثقافة الإخواني علاء عبدالعزيز. كان ذلك الاعتصام الشرارة التي انطلقت منها ثورة 30 يونيو من العام نفسه، ولعل من المثير أن الشباب المصري في تلك الليلة لم يجد أفضل من موسيقى الموسيقار اليوناني العالمي، ميكيس (ميخائيل) ثيودوراكيس، والخاصة بفيلم زوربا الشهير، ليعبروا بها عن رفضهم للإرهاب الفكري للجماعة التي تدس الظلام في عروق الصغار قبل الكبار.
في تلك الليلة أدى الفنان وراقص الباليه الأول بمصر، هاني حسن، الرقصة نفسها التي أداها الممثل العالمي، أنتوني كوين، لترتد تبعاتها نحو جحور «الإخوان».
رحل ميكيس في 2 سبتمبر الجاري، وهو الموسيقي العاشق للحرية، والرافض للدوغمائيات الوثوقية المتسلطة، حتى وإن كلفته قناعاته عن الإيمان بالإنسانية وبضرورة التواصل بين البشر، السجن والتعذيب، إلى درجة اعتباره مرتين ميتاً، ولكن كتبت له الحياة، وها هو يرحل وعمره قد وصل المئة إلا أربعة أعوام.
عاش ميكيس حياته بثنائية عجيبة، من غير تضاد، ودون تكافؤ في الأضداد داخل الروح الواحدة. ومنح العالم موسيقاه الخلابة، وعبقريته في التأليف، وخاض غمار العمل السياسي من منطلق يقينه بحتمية سيادة العدالة، وبسط السلام، وإعلاء راية الحرية، ولذا اعتبر كثيرون من أبناء جلدته، أنه قد عاش قصة أقرب ما تكون إلى أساطير الإغريق القدامى في دراميتها وخيوطها، تلك التي يمكن أن تنسج من حولها الروايات.
ومن السيمفونيات الحزينة، مروراً بالتلفزيون الشعبي، وصولاً إلى عشرات الأفلام العالمية، جاء إنتاج ميكيس الغزير، الذي بدأ وهو في عامه السابع عشر. ولم يحمل من الشكل الخارجي ما ينم عن الموهبة الموسيقية والإنسانية، فقد حرص طوال حياته على ارتداء بدلات العمال، رافضاً أزياء المشاهير كما يفعل أقرانه من الموسيقيين حول العالم، ولذلك آمن به الفقراء، ورأوا في شعره المموج وصوته الأجش ملامح رجل صادق يقف في مواجهة الأنظمة التي اضطهدته بعد الحرب العالمية الثانية، بل وبلغ بها الأمر حد حظر موسيقاه.

  • بوستر فيلم زوربا (الصور أرشيفية)
    بوستر فيلم زوربا (الصور أرشيفية)

زوربا الأيقونة الموسيقية
على أرض جزيرة، خيوس، بشرق بحر إيجه، ولد ميكيس في 29 يوليو 1925، وقد بدت عليه منذ طفولته علامات النبوغ والتفوق في مجالي السياسة والموسيقى، وبدأ كتابة الشعر في سن المراهقة. ولم يقبل بالغزو النازي والفاشي لبلاده، ولذا انتمى إلى مجموعات يسارية مقاومة، وكانت النتيجة إلقاء القبض عليه، وتعرضه لاحقاً لمعاناة هائلة، أدت به إلى أمراض لازمته حتى رحيله، منها السل، كما عانى اضطرابات نفسية بسبب تعرضه أكثر من مرة لعمليات إعدام وهمية.
لم تنكسر روح الإبداع لدى الفتى اليوناني، فرغم العقبات والصعوبات، لمع نجمه في سماء الموسيقى اليونانية، فتخرج في مدرسة أثينا للموسيقى عام 1950، واستكمل دراسته في باريس بمنحة دراسية عام 1954.
وكان من الطبيعي أن يتم اختياره من قبل كبار الشعراء اليونانيين، ليغني لهم أجمل وأعذب قصائدهم، وفيما كان يشغل مقعداً نيابياً عن حزب «إيدا اليساري»، وضع في عام 1964 موسيقى فيلم «زوربا اليوناني»، وأصبح اللحن الرئيسي لهذا الفيلم، بمثابة نشيد يرمز إلى اليونان وأجوائها وثقافتها.
كان هذا الفيلم وموسيقاه، نقطة فاصلة، ليس في تاريخ ميكيس فحسب، بل في غالب الأمر بالنسبة للحياة الثقافية في اليونان كلها، فكما حمل اسم «ميكيس ثيودوراكس»، إلى العالمية، رفع معه كذلك آخرين، مثل الأديب «نيكوس كازانتزاكيس»، والمخرج «ميخائيل كاكويانيس»، والممثلة والمغنية «غيرين باباس»، التي عرفها العالم لاحقاً في فيلمين عالميين، الأول: «مدافع نافارون»، والثاني «أسد الصحراء عمر المختار».

شهرة في الظل! 
ساهم ميكيس بوضع موسيقى أفلام عالمية متعددة، وقد نال جائزة البافتا لأفضل موسيقى كتبت لفيلم عام 1970 وهو الفيلم الفرنسي «زد»، الذي صورت أحداثه في الجزائر، للمخرج الشهير كوستا غافراس. كما كتب أيضاً موسيقى أفلام مصنفة ضمن الروائع العالمية مثل إلكترا، وفيدرا، وأفيجينيا، وحالة حصار، ويوم خرجت السمكة من الماء.
على أن «الماستر بيس»، كما يقال في لغة السينما، أو القطعة الرئيسية في أعمال ميكيس كانت فيلم زوربا، ذلك الفيلم الذي حصل على ثلاث جوائز أوسكار، أفضل تصوير، أفضل أخراج، وأفضل ممثلة مساعدة، فقد حجب جميع العاملين فيه في الظل، حيث طغت الموسيقى والقصة على ما عداها. وقد طرحت نتائج الأوسكار علامة استفهام مثيرة للتأمل، وهي: «هل هناك في هوليوود عاصمة الفن الرأسمالي، من حاول معاقبة ميكيس على تاريخه المناهض للإمبريالية بكافة أشكالها وأنواعها؟ منطلق السؤال أن ميكيس بموسيقى الفيلم التي انتشرت في أرجاء العالم بقي في الظل، وكأن هناك من أراد أن يعاقب الموسيقي الكبير على ما لا علاقة له بالفن، بل بمواقفه الشخصية الموصولة بالعدالة بين البشر، ورفض الظلم.في أكثر من حوار أشار ميكيس إلى أن نجاح قصة زوربا ربما يعود إلى أنه اكتشف ذاته في تلك الشخصية التي رسم معالمها كازانتزاكيس في روايته، الشخصية العاشقة للحرية والفن، ولهذا أجمع النقاد الفنيون حول العالم على أن ميكيس لم يستطع الخروج من عباءة زوربا المكتوبة بصياغة بارعة وبروح نادرة مصقولة بأفكار الكاتب وتأملاته بل وجنونه! والأكثر مدعاة للدهشة أن الأمر عينه انسحب على أنتوني كوين.
وغداة رحيل ميكيس قبل بضعة أيام كتبت وزيرة الثقافة اليونانية، لينا ميندوني، على «تويتر» تقول: «اليوم فقدنا جزءاً من روح اليونان»، واصفة ميكيس بأنه «الشخص الذي جعل جميع اليونانيين يغنون الشعر».
والواقع أنه كان أداة جذب وتنشيط للسياحة في اليونان، فقد حرص الملايين من السياح على زيارة الشاطئ الذي رقص عليه أنتوني كوين رقصته الشهيرة، وتقليده وتسجيل تلك اللقطات بالكاميرات الفوتوغرافية قبل أن تطفو على السطح كاميرات الفيديو.
يرحل ميكيس بالجسد، ولكن موسيقاه لا تموت... الموسيقى تطير بالأجنحة من جيل إلى جيل، وتسكن القلوب من عاشق إلى آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©