الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«أبو الفنون».. فضاءات وانتظارات

«أبو الفنون».. فضاءات وانتظارات
2 سبتمبر 2021 02:31

بول شاؤول

يمكن اعتبار القرن العشرين هو من جهة قرن الالتزام في الأدب، والشعر، والسينما، والمسرح والفن التشكيلي... ولكن أيضاً عصر «اللا التزام» والمدارس الفنية الفوضوية، والعبثية، واللامعقول، واللاشيئية. ولكن، لأن موضوعنا هو المسرح الملتزم، «فلنلتزم» تخصيصه بمقالتنا. صحيح أن المسرح العربي، قد بدأ مع مارون النقاش بمسرحيته «البخيل» (1847)، والقباني (سوريا) ويعقوب صنوع (مصر) ومن ثم بدأ في مستهل القرن العشرين ببناء المسرح التراجيدي مع جورج أبيض، والكوميدي مع نجيب الريحاني، ومن ثم تطور على امتداد هذا القرن، فيمكن القول إن المسرح الملتزم قد هلت طلائعه في منتصف القرن الماضي، وعرف ذروته في الثمانينيات، مع كتّاب وروّاد بارزين، من مختلف الدول العربية. وإذا كان لهذا المسرح من سمات معينة في باب الالتزام، فأولاها تنوعه بين المسرح الاجتماعي، والسياسي، والأيديولوجي (الحزبي وغير الحزبي) واختلطت المقاربات والمواضيع، بحيث شكلت تعددية خصبة في الأعمال، جعلتها، عموماً، تتكامل وتتنافس عبر فرق ومجموعات، ومهرجانات ومؤتمرات وندوات.
كأنها اللحظات الذهبية التي عرفها المسرح برغم الهزائم السياسية، والعسكرية، وبروز ظاهرة الانقلابات الحزبية في عددٍ من الدول العربية، وما أنتجت من رقابات مشددة، ومن قمع، ومن منع، ومن تهديد. بحيث عاش المسرحيون، كتّاباً، ومخرجين، وممثلين، أوضاعاً صعبة، إنه الالتزام ذو الثمن الباهظ، متعدد الوجوه.
لكن إذا أردنا تبيان اتجاهات الأعمال المسرحية، فسنجد أنها عالجت عموماً قضايا الحريات، والديمقراطية، وفساد بعض الأنظمة، والاستبداديات المتنقلة، والديكتاتوريات التي عرفها العالم العربي من دون أن ننسى «النكسات» الكبرى التي كابدها العرب، منذ عام 1943، خصوصاً هزيمة الـ 1967، وما نتج عنها من أشكال مقاومة، ومواجهة، والتزام القضية المركزية عبر أعمال عبرت عن نفسها بشكل مباشر أو بأقنعة التراث المسقطة على الحاضر، أو بالتورية، أو بالسبل غير المباشرة، اتقاءً للرقابة والمنع.

  • صمويل بيكيت
    صمويل بيكيت

البريشتية العربية 
لكن إلى هذه الاتجاهات السياسية والوطنية والقومية، عرف المسرح العربي الملتزم، من جهة أخرى، أشكالاً مواربة من المواجهة، كاستخدام العبثية، واللامعقول (بيكيت، يونسكو، أداموف) لمعالجة القضايا الاجتماعية، الناتجة عن الأوضاع السياسية، أمثال العديد من المسرحيين كريمون جبارة، وعصام محفوظ، أو آخرين تبنوا مرجعيات أيديولوجية أمثال بريشت، حتى أصبحت البرشتية في خطوط الالتزام، ظاهرة، عمّت مجمل المسرح العربي.
ففي مصر محمود دياب وسعد أردش، وفي الكويت صقر الرشود، وفي لبنان جلال خوري، وفي سوريا سعد الله ونوس وفواز الساجر، وفي العراق يوسف العاني... من دون أن ننسى أيضاً بعض المسرحيين الملتزمين خارج البوابة البرشتية، مثل يعقول الشدراوي، وميشال جبر، وأسامة العارف... وكذلك آخرين استقلوا عن الاتجاهات المقننة في مسرحهم السياسي أمثال العراقي سامي عبدالحميد في «جلجامش» والمصري محفوظ عبد الرحمن.
لكن، عندما نراجع اليوم مجمل الأعمال المسرحية العربية الملتزمة، نجد أنها انحصرت في قضايا محددة، كما سبق أن أوردنا (الحريات، القمع، هزيمة 5 حزيران) وبعض المسائل الاجتماعية من منظور الواقعية أو ما فوق الواقعية. وهذا يعني أن دور المسرح في المرحلة السابقة كان وامضاً، في تأثيره، وفي تجييشه، وفي معارضته، ومجابهته. إذاً، فضاءات محددة في مراوحة التناول، لا ينافسه في ذلك سوى السينما والتلفزيون.

تراجع التأثير
اليوم، وفي خضم التحولات، والانقلابات، وسقوط عصر الأيديولوجيات والأفكار، وسيادة قيم العولمة، وسطوة التكنولوجيا، وتطور وسائل الاتصال بشكل عجائبي، متواتر (الخليوي، الإنترنت، تويتر، الواتساب...) تراجع تأثير المسرح «الملتزم» إلى حد الاختفاء، وراء هذه الاجتراحات، ولكنه لا يموت، وتبدو الحاجة إليه ملحّة، للانتقال من زمن الأيديولوجيات المعلبة إلى زمن التكنولوجيات والفضاءات الاجتماعية والإنسانية. وإذا كان دوره في الحقبات الماضية، قد اقتصر على قضايا محدودة، فإن دوره اليوم قد اتسع باتساع الظواهر الملحّة في العالم على صُعد مختلفة. وتعاظم لكن بنوعية أخرى من الالتزام، لم تعد محلية هنا وهناك بل كونية، فالعالم انفتح على بعضه بالسلم وبالحروب، واخترقت الحدود بشكل شرعي أو غير شرعي.

  • نجيب الريحاني
    نجيب الريحاني

وهذه الظواهر المستجدة، التي على المسرح الملتزم، في حلته الجديدة المحتملة، أن يقاربها، منها ما هو قديم، كمسألة الحريات والاستبداد، والقمع، ومنها ما هو مستحدث:
التزام حركة الاحترار المناخي الذي يهدد الكرة الأرضية كلها. التزام قضية البيئة، التي صارت لها أحزابها ومناضلوها، والمسمون «الخضر»، يدافعون عن الطبيعة، والكائنات النباتية والحيوانية، التي تنقرض بوتائر مخيفة (انقراض عشرات ألوف أنواع النباتات والحشرات والطيور والحيوانات). وكذلك قضية المرأة التي وصل التزامها إلى درجات عالية من الاهتمام، في الغرب وما بالك في الشرق وعالمنا، وقد أثبتت فاعليتها. والكتاب مهدّد، بعدما بدأ انتزاعه من المطبعة ومن الورق إلى المواقع والشاشات المعدنية. والأمكنة المسرحية والسينمائية مهددة أيضاً، مع تغير الإنتاجات، مثلاً، مؤسسة «نيتفليكس» صارت تنتج أفلاماً، وتعرضها في التلفزيون دون الصالات، بحيث هددت هذه بوجودها... وهنا الالتزام بالأمكنة كانتظارات تاريخية للحضارة الإنسانية.
ومن القضايا ظاهرة الاتجار بالأعضاء البشرية، وتطويع الأطفال بالحروب، التي ازدهرت اليوم ويا للأسف في العالم العربي، وهي قضية لا يمكن أن تكون غريبة عن الالتزام المسرحي.. وظاهرة الهجرات والتهجير، من بلدان العالم الثالث (والعربية) هرباً من الجوع والفقر، في عبّارات الموت، وبواخر الفناء في البحر، بحيث تحول البحر «مقبرة بحرية».

كسر الجدار الرابع
ومن ناحية أخرى، نُورد هنا ما يمكن تناوله، لتعزيز وسائل الالتزام في المسرح، وفضاءاته، وأمكنته، وطرق معالجاته من النص، إلى الإخراج والسينوغرافيا، والإضاءة، وبحيث تكتسب طرق هذه المعالجات طوابع جديدة، تلائم التطورات التي أصابت المجتمعات ومشاكلها، وأوضاعها.ونظن أن المسرح الملتزم اليوم، يتطلب تطوير وسائله، وانتشاره، بحيث يسترجع دوره الإبداعي والسياسي والاجتماعي والتربوي، بعدما اكتشفنا أن طغيان وسائط الاتصال، بسرعتها وسهولتها، وجنون انتشارها، بات أقوى من المسرح، والسينما وحتى والتلفزيون في علاقتها بالأحداث والقضايا المختلفة.. ولا يعني هذا مواجهتها وإنكارها، بل محاولة استيعابها (قدر الإمكان) واستغلالها، بل ومحاولة منافستها، في اجتذاب الجمهور. وهذا يتطلب تنويع جديد للأمكنة المسرحية: من المسرح المعهود، إلى مسرح الشارع، والمناطق، والمدن، وهذا عرفناه حتى في التجارب العربية (كسر الجدار الرابع) واختيار منازل وقصور قديمة وتقديم أعمال فيها حتى في بعض المهرجانات.
ولكن، أتكفي هذه الخطوات الضرورية في بعث مسرح قادر على فرض نفسه، ليس كوسيلة إعلامية فحسب، بل كأداة تلعب ما تلعب من أدوارها السابقة، لكن بأطر ومسالك جديدة، يعني، أن المدارس أو الاتجاهات المسرحية السابقة، قد لا تكون فعالة إذا كررناها بملابسها وهيئاتها السالفة. وهذا لا يعني الاستغناء عن الموروث العظيم الذي تركه أجدادنا ومن سبقونا، من نصوص، وأساليب، وإنجازات، بل محاولة إيجاد اختراقات جديدة فيها، ملائمة لجمهور يتحول كل يوم بفعل سرعة إيقاعات العالم. فلا نقدم المسرح الملتزم بالذهنية القديمة، وبالمشهدية النمطية، وبالطرق التي انتهت صلاحياتها! وهذا يتطلب محاولة استخدام إبداعات الماضي بطرق جديدة، وكذلك ابتكار وخلق مناخات غير مسبوقة، تنطلق من دراسة واقع كل أداة إعلامية أو معرفية وجمالية وفنية، وعلاقتها بمسائل الحاضر المتسع باطراد. فهل يمكن استعادة البرشتية كما استخدمت في الخمسينيات والثمانينيات، أو المسرح الفقير (غرتوفسكي) أو «مسرح القسوة» (أنطونان أرطو)، أو المسرح الوثائقي، أو الاحتفالي، أو التراثي بطريقة استنساخية من ذاكرة الأمس. وهل يمكن أن نستعير ما وقع فيه بعض المسرحيين الملتزمين، من شعارات وخطب وكليشيهات، لم تعد لها علاقة بالجيل الجديد، لا من قريب ولا من بعيد.

  • جورج أبيض
    جورج أبيض

المعادلة الصعبة
ومن هنا، علينا أن نعرف أن المسرح الملتزم اليوم سيتوجه إلى أجيال جديدة، لا علاقة لها حتى بالقضايا القديمة، ولا بنبراتها، ولا بهمومها. ومن هنا، ضرورة فهم ما آلت إليه أحوال هذه الأجيال، ومذاقاتها، واهتماماتها، وهواجسها وذهنياتها، وطرق جذبها.
بمعنى آخر، لا يمكن أن تقدم ما نطالبها بالتزامه. وهو من شتات الماضي. ونظن أن المعادلة الصعبة التي قد تواجه المسرحيين الملتزمين اليوم أو في المستقبل، تكمن في كيفية استخدام القديم برونق جديد، وكيف نقدم الجديد بنكهة ما ورثناه من نجاحات.
وأخيراً، أعترف بأن مهمة المسرح عموماً، والملتزم خصوصاً، صعبة، ولاسيما المسرح الجدّي أو المرتبط بالأسئلة الكبرى وانتظاراتها، ولا يمكن الإقلاع بهذه المحاولات، من دون أن يتلقى المسرح في كافة الدول العربية، دعماً غير مشروط، وميزانيات يمكن بها إنتاج أعمال تنافس حقاً مجمل الوسائط والأنواع الحداثية التقنية و(التكنولوجية)، والغنائية، والفنية، وحتى السينمائية!
المسرح هو «أبو الفنون»، فلنعمل على أن يبقى أباها... وابنها، ومستقبلها!

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©