السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

بيروت.. ثقافة ما بعد الانفجار!

بيروت.. ثقافة ما بعد الانفجار!
26 أغسطس 2021 02:31

ثناء عطوي

ماذا تعني الثقافة في بلدٍ يقف الناس فيه وسط طوابير الذلّ والعَوز، وطوابير الهجرة والسفارات؟ وماذا تعني الثقافة في بلدٍ يقف ناسه في منتصف الفراغ، ليله طويل وموقعه على الخريطة مُظلم، بلد دُمّرت عاصمته فوق رؤوس أبنائها، وهشّم الزجاج أحلامهم، وغطّى الركام كل أملٍ لهم في القيامة؟
نحن اليوم إزاء لبنان ثقافيٍّ جديدٍ، لبنان مُنشغل بصنف الدمار، وهوّية المجرم، ومحاكمة القتلة، وتهيئة القبور. ونحن إزاء «لبنانيّ جديد»، مُنشغلٍ بقوت يومه، ومُسكّـن آلامه، ووقودٍ أقلّ سواداً من ليله.. لبنانيّ أصيب بعطبٍ في الروح، بعد أن فقد أمنه واستقراره، وخسر مطابعه وصحفه وجامعته ومستشفاه وأموال مودعيه، وخسر أخيراً عاصمته، وأحد أبرز مقوّمات وجودها: الثقافة والمثقّفين.
الرابع من آب (أغسطس) لم يكن مجرّد انفجار مرفأ، بل بداية تحوّلٍ في عمر هذه المدينة، التي تشظّت على وقع الكارثة. منذ ذلك الحين، تغيّرت بيروت، وتغيّر اللبناني، صار بلا ملامح أو قُل صارت للّبنانيين ملامح مشتركة، صاروا يشبهون خوفهم، أو صار الخوف هو وجههم!
الخوف، كلمة تعمّق معناها بعد الرابع من آب، هذا ما تقوله الكاتبة والإعلامية ومسؤولة القسم الثقافي في موقع النهار العربي مايا الحاج، إحساسٌ دائمٌ بالخوف والارتياب، خائفون من كلّ شيء، من هول الواقع، وعبث المستقبل، من صمتٍ مريب، ومن صوتٍ يخرق صداه الآذان. منذ نهاية 2019 كنّا نعاني من إغماءٍ تدريجي جرّاء جائحة قاتلة واقتصادٍ مُعدم. ثمّ جاء الانفجار ليعلن موتنا الصريح. وكأنّ أسباب الحياة انتفت مرّةً واحدة. لا أمن، ولا أمان، ولا حلّ يلوح في الأفق. فجأة، صرنا متروكين إلى راهنٍ مهول، ومصيرٍ مجهول. وبعد عامٍ على انفجار المرفأ، لا شيء عاد كما كان. الهواء ما زال محمّلاً بغبار الانفجار، والزمن لم تعد له خفّة الأمس. يمرّ ثقيلاً، فارغاً من أيّ معنى. الحياة نفسها لم تعد تُحتمل. والبقاء صار مغامرة. نتكدّس جميعنا في الهاوية، ولا سُبُل للنجاة تلوح في الأفق. وإذا تأملنا انعكاس هذه الأزمات على الواقع الثقافي، نرى أنّه الأكثر تضرراً بمختلف قطاعاته. لا مسارح، ولا سينما، ولا معارض ولا مهرجانات..
لقد طاول الانفجار الهائل واجهة بيروت الأثرية أيضاً، وما تبقّى من مباني بيروت التراثية -بعد الحرب الأهلية- تهدّم، أو تخلّع كما توضح الحاج، فأكثر من 600 مبنى تاريخي تضرّر بشكلٍ كبير. وماذا يبقى من بيروت الثقافية حين تخسر أمكنتها التاريخية؟ وما الذي يمنح المدن عظمتها أكثر من أبنيتها الأثرية؟ متحف «سرسق» التاريخي استحال حُطاماً. الكثير من الصالات الفنّية (الغاليري) دُمّرت بكلّ ما تحويه من أعمالٍ قيّمة. والمشكلة أنّ التعاطي مع كلّ هذا الفقدان يظلّ بارداً، كأنّ هذه الأبنية والمؤسّسات لا تخصّ سوى أصحابها.
وتوضح الحاج أنّها يوم قصدتُ مثقفي بيروت ومبدعيها للحديث عن لحظة الانفجار وتأثيره عليهم، ختموا جميعهم بكلمة واحدة: الأمل. فالمثقّف الحقيقي يظلّ محكوماً بالأمل وبضرورة العمل من أجل التغيير.
معلومٌ أن الانفجار حدث لسببٍ ما، ولبنان لطالما كان هو الخبر المتفجّر وهو الفتيل القابل للانفجار في كلّ مرّة، أو كما يقول الشاعر عباس بيضون في مقالةٍ له إنّ لبنان منذ كانت الحرب الأهلية وهو يواجه أحداثاً دموية، وانفجار آب واحد منها وليس أشدّها. فلبنان الذي خرج من حربٍ أهلية كلّفته أكثر من مئة ألف قتيل، ولم يمرّ الزمن على خسارة ألف وخمسمئة في حرب تموز (يوليو)، ولا نعرف بدقّة عدد القتلى في حرب سوريا، ماذا تعني له وفاة مائتي شخص؟

الانفجار صار القضية!
لكنّ الكاتب روجيه عوطه يقارن الانفجار وما بعده بالحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت لعقود، فهي في رأيه كانت الموضوع المسيِّر للوسط الثقافي والفني اللبناني في الماضي، بمعنى أن المؤسّسات الداعمة كانت تهتمّ بتشجيع الإنتاج المتعلّق بموضوع الحرب. لكن بعد بدء «الربيع العربي»، واهتمام هذه المؤسّسات بالثورات، قلّ الاهتمام بالموضوع، وما عاد مادةً جاذبة، وبالتالي، ظهر ذلك الوسط وكأنّه بلا موضوع يقدّمه ويشغله. بعد انفجار المرفأ، بدا أنّ هذه المجزرة قد أخذت المحلّ الذي كان موضوع الثورات العربية يقيم به، وأخذُها هذا كان مشروطاً بالتشجيع على الإنتاج حولها، وبالتالي، قَلَبها وأصبحت موضوعه. بالطبع، هذا الإنتاج يتراوح من لوحةٍ تنقل مشاهد خلّفها الانفجار إلى استخدام الزجاج الذي سقط من نوافذ المدينة بعد موتها كمنحوتات، وبينهما المشاركة في تحويل عدوان مثل 4 آب إلى ذكرى تترافق مع احتفاليّاتٍ وفعاليّات. ويمكن القول، ومن دون نفي للمبالغة، أنّه لولا هذا الموضوع لما كان هناك شيء، وسبب ذلك، هو الوضع اللبناني الذي عاد وفاقمه الفيروس والحجر الصحّي.

كارثة.. ولكن مُلهمة!
يقول بعض المثقفين، إنّ الانفجار أصاب الثقافة بعطبٍ دائم، ويقول بعض آخر، إنّ الفاجعة كانت ملهمةً للفنّانين الذين صنعوا من أطنان الزجاج المسحوق الذي غطّى شوارع المدينة أشكالاً فنّية مفعمةً بالحزن، وصنع البعض من الحديد المجبول بالدماء، تماثيل ومجسّماتٍ في الشوارع، تُقلق الذاكرة ولا تدعها ترتاح.
وفي حين شكّل الانفجار طاقةً ملهمةً للبعض، شلّ أدوات بعض الفنّانين التشكيليّين مثل الفنّان المعروف أيمن بعلبكي الذي يقول إن الإحساس بالفراغ الداخلي أقوى من أيّ عملٍ فنّي يمكن أن ينجزه أو يفعله منذ حدث الانفجار: أشعر بالخواء في داخلي وهذا الإحساس صار أقوى بعد أن مرّ الوقت على كارثة المرفأ.. فيما ترفض التشكيلية ريم الجندي الحديث عن الموضوع: «ماذا يمكنني أن أقول تجاه هذه المأساة، هناك أشخاص كانوا أقرب مني للانفجار، وبإمكانهم التعبير عنه بشكلٍ أقوى».

دور النشر.. هل هي صامدة؟
لا يرتبط واقع دور النشر في لبنان بالانفجار وتداعياته، وإن كان قد زاده تعقيداً وخسارة، لكنّ التداعي في هذا القطاع بدأ منذ اندلاع الثورة في البلاد وانهيار الوضع الاقتصادي وظهور «الجائحة». وفي هذا الصدد تؤكّد صاحبة دار الجديد رشا سليم الأمير أنّ الدار تعاني مثل دور النشر الأخرى، ومع انهيار لبنان الكلّي والتغيّرات الجذرية التي تحدث فيه، نحاول إيجاد حلولٍ وأسباب للبقاء والاستمرار، فلن يمنعنا الانهيار من إصدار الكتب، بل نعمل لتأمين كتبنا مجاناً لكلّ من يحتاج إليها، وتوفيرها إلكترونياً على موقع الدار، مؤكّدةً أنّ على دور النشر الوقوف في وجه القتل من خلال الكلمة، وإحياء الإنسان عبر النشر والكتب.
وتعتبر الأمير أنّها ليست تاجرةً تعيش من الكتب التي تبيعها، بل تربح كلّما كان لديها قارئ جديد، فأنا أبني الجسور بين الناس من خلال الكتب بدل العنف والموت، وأشارك من موقعي كدارٍ للنشر، في صنع الخيارات والدولة هي من يجب أن يتبعني. الدولة قد تفشل لكن الأفكار لا يمكن أن توصد بابها، بل هي الصخرة التي يمكن أن يتمّ البناء عليها للمستقبل. ولفتت إلى أنّ علاقة الناس بالكتب تغيّرت، وكلّ يقرأ على قدر طاقته ووقته واهتمامه، ولذا فإن الكتاب يجب أن يتغيّر، والزمن الإلكتروني مفيد لأنّه وضع في متناول الجميع كتباً للقراءة.
وتتجّه دور النشر في لبنان نحو الانتقائية في الطباعة، كما يقول عيسى الأحوش صاحب دار بيسان للنشر، إذ لم تعد لدينا في بيروت رفاهية النشر، فقطاع النشر لا يعاني تراجعاً وحسب، وإنّما يعاني انحداراً هائلاً، لقد كنا نصدر قبل ذلك 40 كتابا في السنة، وأصبحنا اليوم نطبع 10 كتب على أحسن تقدير.
وتؤثّر أيضاً أزمة انهيار العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي على قطاع النشر في لبنان بشكلٍ كبير، وتلفت المسؤولة عن دار الريس فاطمة الريس إلى أنّ تكلفة الطباعة وأسعار الورق لم يتغيّرا ولكنّهما أصبحا بالعملة الصعبة أيّ الدولار، في حين أنّنا نبيع بالعملة اللبنانية، ومن الصعب رفع سعر الكتب لأنّ القارئ سيُحجم عن الشراء، وقد أصبح لزاماً علينا أن نبيع ألف نسخة حتى يردّ الكتاب تكلفته، فدار الريس كانت تطبع أكثر من 50 كتاباً في السنة ولكنها اليوم بالكاد تطبع 6 كتب بعد أن باتت تكلفة الطباعة عالية جداً، ويصعب ردّ تكلفتها لأنّها بالليرة اللبنانية.
ومن جهتها، تجزم مايا الحاج بأنّ صناعة النشر في لبنان تضرّرت جداً. لا نقول إنّ هذا القطاع كان في أفضل أحواله قبل 2020، ولكنّ تحديات «كورونا» والدولار والانفجار، ساهمت معاً في تأزّم الوضع وإيصال معظم الدور إلى حافّة الإفلاس. مكتبات كثيرة أقفلت، ومعارض الكتب غابت، وبعض دور النشر على وشك الإقفال. وإذا كان وعينا الثقافي قد تشكّل على جملة مفادها: القاهرة تكتب، وبيروت تنشر، وبغداد تقرأ.. فهل يعقل أن نسمح لبيروت بأن تخسر دورها الريادي هذا؟ مع الأسف، أمام انشغال الجميع بلقمة العيش وتأمين بدهيات الحياة، غدت الثقافة ترفاً في بيروت.
وبفعل ذلك، يقول روجيه عوطه: صار الإنتاج صعباً للغاية بسبب غلاء مواد الطباعة وقبل ذلك كلّه، ما يتعلق ببنية الإنتاج المطبعي، من كهرباء وسواها. وأعتقد أنّ مشكلة تراجع الإنتاج غير ملحوظة، ومردّ ذلك أنّه حتى قبل أكتوبر 2019 و4 آب 2020، لم يكن الوضع غزير الإنتاج، وبالتالي، فإنّ تراجعه أو تلاشيه، يُبرزه كأنّه لا يزال على ما كان عليه في الماضي. وهذه مشكلة تتعدّى قطاع النشر إلى قطاعاتٍ أخرى: بسبب هزالتها السابقة، فكلّ ما يحصل سيردّها من بعده إلى هزالتها نفسها، وعندها، ستبدو كأنّها لن تتغير أو أنّها صامدة!

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©