الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مقال لـ«طه حسين بك» في «الآداب الفرنسية» 1946: فرنسا ومصر.. مغامرة الفكر

طه حسين
19 أغسطس 2021 02:13

ترجمة: عبدالرحيم نورالدين

يُعد طه حسين (1889- 1973) من رواد حركة التنوير الكبار في مصر، وقد خاض عدة معارك ضد الفكر التقليدي، وناضل من أجل تعميم التعليم ومجانيته. مارس التدريس الجامعي وتقلد عدة مهام رسمية. تأثر بالمنهج الديكارتي وأثارت بعض مؤلفاته نقاشات كبرى، كـ«تجديد ذكرى أبي العلاء»، و«في الأدب الجاهلي».
وفي إطار التعريف بكتابات حسين الفرنسية، تأتي ترجمة هذا النص المنشور عام 1946.
يسرني أن أعبر عن تقديري المتحمس جداً والصادق جداً للفكر الفرنسي، ذلك أن فرنسا، تمثل بالنسبة لنا نحن الأجانب، البلد الذي لا يعرف فيه الفكر الشغور، ولا يتعطل فيه العقل أبداً.
ومنذ القرن السادس عشر، تابع العالم فرنسا وهي بصدد التفكير من أجله. ليست فرنسا بلداً أنانياً، بل هي بالضبط البلد الكاره للأنانية. إنها تحديداً البلد الذي يفكر حقاً في ما هو إنساني. ولهذا السبب يحب الأجنبي فرنسا. ورغم كل الظروف، وكل ما يمكن أن يحدث، يرى الأجنبي في فرنسا بلد الفكر، وبلد الفكر الإنساني على وجه الخصوص. إن تكريمي للفكر الفرنسي باسم بلدي، هو في ما أعتقد، تكريم له باسم جميع الأجانب، لأن فكرتنا عن فرنسا في بلدنا، هي بالضبط الفكرة التي يمكن أن يكوّنها أي أجنبي عنها.

التعاون والتضامن
بعد عامين من الآن، سيكون قد مر 150 سنة على أول اتصال مباشر بين مصر وفرنسا، بعد عامين، ربما سيكون بإمكاننا الاحتفال بذكرى هذا الاتصال بين الشرق العربي وفرنسا. لقد أرسلت فرنسا جيشاً إلى مصر بحثاً عن المغامرة العسكرية والسياسية، ولكن هذه المغامرة باءت بالفشل، بيد أن مغامرة أخرى نجحت بأكثر الكيفيات مجداً وروعة، إنها مغامرة الفكر. لقد احتاجت فرنسا إلى سنتين لتدرك أن مصر ليست بلداً معداً للاستعمار. واحتاج غير الفرنسيين إلى ستين سنة لفهم ذلك، ولكني لست متأكداً من صحة فهمهم للأمر. لم يرجع جيش بونابرت الفرنسي إلى فرنسا خاوي الوفاض، بالعكس، لقد عاد بحقائب مليئة بأعمال واكتشافات العلماء الفرنسيين الذين رافقوا بونابرت. ومنذ ذلك الحين، قام تعاون متواصل بين فرنسا ومصر، تعاون ودي ومنزه عن النفع، من أجل الخير، خير الإنسانية الحقيقي، ومن أجل السلم الذي تريدون أن يكرس الفكر الفرنسي لخدمته، والذي كان الفكر الفرنسي دوماً مكرساً لخدمته.
يكفيني أن أذكركم بالخير المادي، والمعنوي، والثقافي الذي نتج عن التعاون بين فرنسا ومصر.
المادي؟ يا إلهي، قناة السويس، الدلتا، الري في مصر.
المعنوي؟ يا إلهي، يقظة مصر، إطلاع الشرق العربي على الحضارة الغربية بعد أربعة قرون أو خمسة من السبات.
الثقافي؟ حسناً! علم المصريات، شامبيون(1)، مارييت، ماسبيرو، اكتشاف مصر الفرعونية، الهيلينية.

  • المقال الموقع باسم «طه حسين بك» باللغة الفرنسية
    المقال الموقع باسم «طه حسين بك» باللغة الفرنسية

لا أظن أن هذا التعاون بين فرنسا ومصر، قد أفاد البلد الأول من دون البلد الثاني. لقد حافظنا على مكانتنا بفضل التدخل الفرنسي. لقد استيقظنا. لقد باشرنا استعادة نشاطنا الماضي، ومع ذلك، فنحن لم نكتف بالأخذ فقط، بل لقد أعطينا بدورنا، إذ بفضل هذا التعاون، أخيراً، كانت فرنسا البلد الأول، والبلد الأعظم الذي اكتشف علم المصريات، والذي خلق العلم الأثري المصري. وبفضل هذا التعاون استطاع الاستشراق الفرنسي أن يتصدر الاستشراق الأوروبي. لقد ترجمت مؤلفاتنا القديمة، ودُرس أدبنا، ثم إن كُتابكم وشعراءكم زاروا مصر خلال القرن التاسع عشر. ولم يعودوا إلى بلدهم بأيادٍ فارغة.

فرنسا النزيهة المفكرة
وبالنتيجة، فبفضل هذا التعاون الودي، والمنزه عن المنفعة، بين فرنسا ومصر، تم إنجاز شيء عظيم، وهو ليس بالأمر الغريب، إذ حيثما تدخلت فرنسا النزيهة، فرنسا المفكرة، إلا ونشأ شيء عظيم. شيء عظيم نشأ إذن، إنه بكل بساطة، التعاون، والتآزر بين الشرق والغرب، التآزر من دون شعور بالخزي، التآزر من دون خوف أو خلفيات.
ما الدليل؟ حسناً، لقد قدمته سنوات 1940 إلى 1945. ما الدليل؟ لقد كانت هزيمة فرنسا العسكرية سنة 1940 فترة حزن وحداد في مصر. وكان تحرير باريس مناسبة لأفراح وطنية كبرى في مصر.
لقد كان حزن الناس على غياب فرنسا خلال سنوات الابتلاء، عميقاً جداً. بوسعي أن أؤكد لكم، وبإمكانكم تصديق ذلك، لم تكن الأيام تمضي، خلال سنوات الابتلاء هذه، من دون أن يفكر كل مثقف مصري في فرنسا بتعاطف صادق وعميق. وكل ذلك، لأن ما يجمعنا هو رابط الفكر والفكر المنزه عن المنفعة. حسناً، إذا كنت أحيّي الآن الفكر الفرنسي، وإذا كنت أتحدث الآن، فلأني ببساطة أتمنى بكل صدق، وبكل نزاهة، أن يستمر التعاون بين العرب والفرنسيين بنفس روح النزاهة، وبنفس الاستهداف لخير البشرية ولخير الفكر. أؤكد لكم، سيداتي وسادتي، أن ثمة أشياء عظيمة يمكن إنجازها، إذا ما توصلنا إلى تحقيق التعاون بين هاتين الحضارتين، الحضارة العربية والحضارة الفرنسية، لأن الحضارتين معاً تمتلكان في الواقع، الأساس نفسه: إنها الحضارة الإغريقية- اللاتينية، إنها الحضارة الكلاسيكية التي تلقيناها قبلكم بمدة زمنية ليست بالطويلة، وربما أننا قمنا بتمرير بعض منها إليكم، الآن، تجاوزتمونا، كنتم أساتذتنا، ولكني أظن أن باستطاعتنا في الوقت الحاضر أن نتعاون على أساس الشعور المتبادل بالمساواة والكرامة، وإذا كنتم قد منحتمونا الكثير، ففي اعتقادي أن بمقدورنا اليوم أن نعطيكم بعض الأشياء أيضاً.
حسناً، أبداً لم تكن الحضارة الإغريقية- اللاتينية، أبداً لم تكن الحضارة الكلاسيكية في خطر، أكثر مما هي فيه راهناً.
بالنسبة لي، ليس هناك سوى وسيلة واحدة لإنقاذ هذه الحضارة، ولجعلها في مأمن من النازية ومن كل خطر آخر محدق بها: إنه التعاون الشريف والخالص والموثوق به بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط*.

1- قد يكون المقصود العالم لوجون شامبوليون (1790-1832) وليس «شامبيون».[المترجم]
*المصدر: مجلة الآداب الفرنسية
عدد 117. 19 يوليو 1946

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©