الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

إبراهيم عبد المجيد: الأيديولوجيا تخنق روح الأديب!

إبراهيم عبد المجيد: الأيديولوجيا تخنق روح الأديب!
5 أغسطس 2021 01:20

حوار: إيهاب الملاح

01- في بدايات يوليو المنصرم كنا (أنا والناقد محمود عبدالشكور وأحد الأصدقاء من الناشرين المصريين) في زيارة للكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد في منزله. كنتُ وعدته بأن أزوره فور صدور كتابي الجديد، وأهديه النسخة الأولى. وقبل أن أذهب إليه مباشرة قلت لصديقي محمود عبدالشكور: «أنا ذاهب للأستاذ إبراهيم عبدالمجيد مساء اليوم.. هل تصحبني؟»، رد دون تردد «فوراً. أنا معك». هو مثلي من المقدّرين جدّاً لقيمة ومنجز إبراهيم عبدالمجيد الإبداعي، وقد كتب واحدة من أهم وأجمل الدراسات النقدية عن أعمال الروائي الكبير، بل وكتبه غير الروائية أيضاً.
كان استقباله جميلاً وصادقاً وبسيطاً ومفاجئاً أيضاً بجرعة المشاعر العفوية التي تدفقت على غير ترتيب ولا تحضير ولا حساب. دموعه التي هطلت فجأة كانت تجسيداً لصعوبة وإرهاق الفترة القلقة المزعجة التي عشناها وعاشها العالم كله (وما زال يعيشها حتى اللحظة!) جراء جائحة كورونا التي فرضت علينا العزلة والانفراد والتباعد الاجتماعي!
وطبعاً، ليس سهلاً على رجل اعتاد أن يكون وسط الناس يجول بينهم، ويجلس على المقاهي، ويتأمل الوجوه ويتخيل حكاية كل مارّ أو مارة من أمامه أن يمكث في البيت: «أنا رهين ثلاثة محابس، كورونا والحرّ ورِجلِي»، يقول لنا متضايقاً وممتعضاً، فنلاطفه بالقول: «نحن سنزورك ونزعجك بزياراتنا المتكررة، المهم ألا تمل منا وتطردنا شر طردة»! يضحك بصوت عالٍ، ويقول: «يا مرحباً بالحبايب يا محلا زيارتكم». ويتدفق بحر الكلام ومعين الذكريات، لا فواصل، لا توقفات، ولا أي شيء يمكن أن يكسر جمال هذا الحديث الرائق الممتع.

  • ‎في بيت إبراهيم عبدالمجيد (من المصدر)
    ‎في بيت إبراهيم عبدالمجيد (من المصدر)

02- استقبلنا صاحب ثلاثية الإسكندرية في غرفة مكتبه، أنيقة للغاية، بسيطة ومرتبة، تستطيع أن تلم بمفرداتها ومحتوياتها بإطلالة شاملة دون أن تُرهق عينيك أو تدوخ لالتقاط تفاصيل لا لزوم لها. كل شيء مرتب بعناية وأناقة، يتصدر الغرفة مكتبه وعليه صفوف من الكتب الصادرة حديثاً، وأخيراً وعلى الحائط خلف المكتب مباشرة شهادات التقدير، وجائزة الدولة التقديرية والتفوق في براويز خاصة.. ويحظى إبراهيم عبدالمجيد بشعبية وجماهيرية واسعة، مصرياً وعربياً، وصِلاته الإنسانية وعلاقاته مع الكتاب والمثقفين ممتدة ومتشعبة وعميقة.
على المكتب وجدنا نسخة من رواية الكاتب والسيناريست عبدالرحيم كمال «حورة» الصادرة للتو عن دار الكرمة. وبجوار المكتب على يسار الداخل من باب الغرفة يوجد دولاب مكتبة بضلفتين زجاجيتين يحتوي على كنز حقيقي، الطبعات الأولى والنادرة والمتعددة، المصرية والعربية، من روايات إبراهيم عبدالمجيد، وما ترجم منها أيضاً إلى اللغات الأجنبية، الإنجليزية والفرنسية والإسبانية وغيرها.
وسألته مباشرة: هل هذه هي كل مكتبتك؟ أجابني: نعم. هذه هي الكتب التي أحتفظ بها فقط. كل عام أقوم بجرد المكتبة وأتبرع بالزائد والفائض وما تمت قراءته. (كم تمنيت أن أقوم بهذه الخطوة دائماً.. لكن هيهات!!).
لا نظير لجلسات إبراهيم عبدالمجيد المملوءة حكاياتٍ وروايات وذكريات جميلة. لا يمكن أن تتخيل أننا في هذه الجلسة مثلاً قد استمعنا إلى سرده المذهل لحدوتة ثلاثيته الروائية الأخيرة «الهروب من الذاكرة» التي صدرت في معرض الكتاب في القاهرة مؤخراً، عشنا معها من فكرتها وخطها السردي الأساسي وشخصياتها الرئيسة، مروراً بانتقالاتها المكانية والزمانية من الجزء الأول إلى الثاني ثم الثالث. متعة، طاقة الخيال عنده متوهجة وجامحة، من حالات الاستحضار والتخييل والتجلي.

03- يحكي لي إبراهيم عبدالمجيد أنه انخرط في العمل، خلال الفترة من 1973 إلى 1978 بأحد التنظيمات الماركسية، كان دوره يقتصر على توزيع المنشورات. يقول: خلال تلك الفترة كنت أكتب القصة وأمزقها فوراً، كتبت عشرات القصص ومزقتها، كانت كلها تدور حول طبقة البروليتاريا، والصراع الطبقي، واستغلال الرأسمالية لحقوق الطبقة العاملة.. إلخ! شيء بشع، صوت صراخ وعويل.. ويل للأدب من سطوة الأيديولوجيا. كنت متشبعاً حتى النخاع بالأيديولوجيا، وأدركت أن روح الأديب بداخلي تختنق وتنسحق تحت وطأة العمل الحزبـي. وبعد خمس سنوات، قررنا أنا والمرحوم محمد ناجي (وذكر اسمين آخرين لم تسعف الذاكرة بالتقاطهما) أن نطلِّق العمل الحزبي بالثلاثة، وتعاهدنا أن ننسحب من أي تنظيماتٍ أو انتماءٍ حزبي يمكن أن يؤثر سلباً على إبداعنا وخيالنا ولغتنا، وأن نتفرغ للكتابة فقط، ولا شيء آخر غير الكتابة. سافرت إلى السعودية للعمل، وخلال الفترة من 79 إلى 81 كتبت روايتي «المسافات» التي ظهرت فيها الفانتازيا الخالصة، وقبل أن نقرأ أو نتعرف على أدب أميركا اللاتينية والواقعية السحرية، بل قبل أن يترجم ماركيز نفسه إلى العربية بعد حصوله على نوبل عام 1982.

04- ولعل مفتاح كتابة وسرد وحديث إبراهيم عبدالمجيد فيما أظن هو مفهوم «الشخصية»، بمعناها الفني والجمالي والإبداعي، فالشخصية «حقيقية» كانت أو «متخيلة» هي مفتاح كل ما يشيده من بناءات سردية مذهلة، إبداعية متخيلة أو حقيقية ذات مرجع واقعي.. تفاصيلها، خصوصيتها، لوازمها التعبيرية واللهجية، لحظاتها الدرامية المتوترة والمضطربة، ما يمكن أن يخلقه الخيال بالحذف والإضافة والموازاة لهذه الشخصية أو تلك، رجلاً كان أو امرأة أو طفلاً.. حيواناً أو طائراً أو مخلوقاً آخر من مخلوقات الله التي نعرفها أو لا نعرفها! تولد الفانتازيا من رحم الواقع القاسي والبؤس والمعاناة، الفانتازيا في أدب إبراهيم عبدالمجيد عنصر تكويني مقاوم، فالسخرية والمفارقة والضحكة المرة لا تكتمل إلا بالفانتازيا منطلقة الأجنحة بلا قيود، فينطق الجماد ويتحدث الحيوان وتتحرك الحوائط وتذوب الثلوج وتتداخل المصائر والخطوط وتلتبس الظلال والألوان، كل ذلك دون أن يفقد أبداً سيطرته عليها ولا مفارقتها تخطيطه البنائي المحكم. يقول لنا: «لم أعد قادراً على الخيال. تخيلت عروس البحر فضحكت لأنه لم يكن حولها ماء وماتت بين يدي. تخيلت أسداً فزأر لأنه لا توجد أشجار. تخيلت أرنباً فصار كسيحاً يبكي إذا سبقته السلحفاة. تخيلت فيلاً فنام على صدري يكاد يقتلني. تخيلت امرأة فصرخت أنت كاذب فلم يعد هناك رجال»!

05- يمر الوقت سريعاً، تنقضي ساعتان أو ثلاث ساعات ونصف ساعة تقريباً دون أن نشعر بالوقت. أنظر في الساعة أجدها تجاوزت العاشرة والنصف، أمضينا كل هذا الوقت دون أن نشعر! ولولا أننا لم نكن نريد أن نثقل عليه ونرهقه لكنا ظللنا إلى ما بعد ذلك بكثير.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©