الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«أميلي نوتومب».. الحيتان تطير صامتة في الهواء!

«أميلي نوتومب».. الحيتان تطير صامتة في الهواء!
5 أغسطس 2021 01:00

عماد فؤاد

ظهرت الكاتبة البلجيكية «أميلي نوتومب» على السّاحة الأدبيّة العالمية بقوّة عام 1992، فور صدور روايتها الأولى «نظافة قاتل»، لتلفت الأنظار إلى موهبتها السردية السريالية الخاصّة، وتنال عن روايتها تلك عدّة جوائز مهمّة، من بينها: «رينيه فاليه» و«آلان فورنييه». ثم تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي، وقدّمت على المسرح، بل وتحوّلت إلى عمل أوبرالي من توقيع الفرنسي «دانيال شال». وكلّ هذا النّجاح جعل «أميلي نوتومب» تُصرّ على إصدار رواية جديدة لها كل عام، تصدر في بداية الموسم الأدبي الفرنسي الجديد، وها هي اليوم تصدر روايتها الأحدث «المناطيد - Les aérostats»، التي تحتل الرقم 29 في مسيرتها الروائـية، حاملة معها مفاجأة غير متوقعة، فهذه هي المرّة الأولى التي تتّخذ فيها «نوتومب» من مسقط رأسها بروكسل مكاناً لأحداث إحدى رواياتها! وتكشف لنا الرواية أن الكاتبة البلجيكية الناطقة بالفرنسية، ابنة الدبلوماسي البلجيكي «باتريك نوتومب»، لا تزال تستحضر بشكل جيد أيام شبابها في بروكسل، حيث ولدت في أحد أرقى أحياء العاصمة «إتربيك» عام 1966، لتمضي طفولتها متنقّلة مع أبيها الدبلوماسي في الولايات المتحدة وعدد من دول آسيا. ولكنّها تعود في روايتها الجديدة إلى فترة دراستها الجامعية في بروكسل، من خلال بطلة روايتها الطالبة «آنج دولنوي «Ange Daulnoy» التي تروي لنا القصة. إذ تدرس «آنج» ذات الـ19 عاماً علوم اللغة في جامعة بروكسل الحرة، بالضّبط مثل «نوتومب» حين أمضت فترة دراستها الجامعيّة وحيدة وبعيدة عن أهلها في بروكسل، بل وأكثر من ذلك، تصف «نوتومب» بطلتها المراهقة بأنّها: «ليست طالبة معروفة، بل منعزلة، يناديها أحد زملائها الطلاب أمام القاعة كلها: أيّتها البومة!». في إشارة إلى المعاناة النفسيّة التي مرّت بها «نوتومب» نفسها خلال إقامتها في بلجيكا.

سردية «آنج» و«باي» 
تقضي «آنج» وقتاً طويلاً في التّجول عبر شوارع المدينة هرباً من وحدتها ودروسها، وشركائها المزعجين في الغرف الطلابية، هي المهووسة بالأدب، حيث تقضي الساعات غارقة في الكتب العتيقة شاردة عمّا حولها، حتى تتلقّى عرضاً مُغريّاً لتعليم مراهق يعاني عسر القراءة، وكان الفتى يدعى «باي»، وهو طالب مراهق لأسرة ثريّة مهاجرة عمره 16 عاماً، وعلى الرّغم من العجرفة التي يتعامل بها الصّبي مع معلّمته التي تكبره بثلاثة أعوام، إلا أن «آنج» لم تتردّد في إدخال الفتى سريعاً إلى التحدي الأصعب، فتبدأ في إقناعه بقراءة كلاسيكيّات الأدب العالمي، كحلّ لعسر القراءة الذي يعاني منه! ولدهشتها، يستجيب الفتى، ويقرأ معها «الإلياذة» لهوميروس و«الأحمر والأسود» لستاندال و«التّحوّل» لكافكا. و«باي روسير» في الرواية ليس فقط هذا الصبي المتأخّر دراسياً، ولكنّه أيضاً من أصول سويسرية، عاش لفترة في جزر «كايمان» مع أسرته الغنية، ولديه ولع فريد بالرياضيّات والمناطيد الهوائية الحربية، وخاصّة تلك التي تمّ استخدامها أثناء الحربين العالميتين، وتتفهّم «آنج» ولع «باي» بالمناطيد وأسرارها، فتبدأ في تغذية شغفه بها من خلال زيارة المتاحف الحربية معه، مقابل أن يقرأ معها ما تقترحه عليه من كتب، وهنا تتحوّل الرواية إلى تقرير مفصّل على لسان قارئين نهمين للأدب العالمي، وكأنّ «نوتومب» تنشئ مسرحها الخيالي الخاصّ لمناقشة تصوّراتها الفلسفية والأدبية عن هذه الأعمال الخالدة، ولكن في إطار روائي متقن.

فخ الانتقام
سرعان ما تكتشف «آنج» أنها تتورّط يوماً بعد يوم في علاقتها بأسرة «باي» الغريبة، فالأب سمسار البورصة الثري شخص متسلّط، يتجسّس على «آنج» أثناء تدريسها ابنه المراهق من خلال مرآة شفافة، والأم مجرد «أوزة غبية»، وفقاً لوصف «باي» على مسامع «آنج»: «كنت في الثامنة عندما أدركت أن أمّي لا تفقه شيئاً، وكنت في الثانية عشرة عندما اكتشفت أن أبي هو الآخر أحمق»! ونكتشف لاحقاً أن الأب فظ لا قلب له، أقرب إلى نوع الآباء المتسلّطين الذي عانى منه كافكا في طفولته المحطّمة، ما يجعل الصبي ينظر إلى والده حائراً بين الكراهية والامتعاض وعدم الفهم! فيبدأ في الحلم بالهروب والطيران بعيداً، مستخدماً أحد هذه المناطيد الهوائية التي «تنام حزينة في قاعات المتاحف»، أو على حدّ وصفه في مقطع آخر من الرّواية: «الحيتان التي تطير صامتة في الهواء». وقد وُصفتْ «المناطيد» منذ ظهورها بأنّها رواية «نوتومب» الأولى عن بروكسل، بسبب الرحلات التي تبرع الكاتبة في وصفها داخل العاصمة البلجيكية، حتى لنكاد نرى تجول «آنج» مع تلميذها عبر غابات ومتاحف المدينة، وخاصّة متحف الجيش، حيث يمكن لـ«باي» هناك التمتع برؤية عدد من مناطيد الحرب الهوائية عن قرب. ومع ذلك، تحتفظ «نوتومب» أثناء هذا التجوّل السردي المثير بخيط الصراع الذي يكبر بين الشخصيتين الرئيسيتين، فتستمر المشاحنات بين «آنج» و«باي» بشكل رئيسي حول الأدب، ومنها تكتشف «آنج» أن «باي» لم يشفَ فقط من عسر القراءة، بل صارت لديه أيضاً مَلكة تحليل أدبيّة مذهلة أبهرت معلّمته، هي التي كانت تحفر في مسامعه من قبل نصيحتها الأثيرة: «قراءة الكتب الجميلة إعداد جيّد لحياة مليئة بالمغامرات». هنا تدرك «آنج»، بعد فوات الأوان، أنّها كانت تلقم الصّبي الذّكي سبلاً للانتقام من واقعه المزري، وكيف لا، والإلياذة والأوديسة مليئتين بالعنف؟ صحيح أنّ الأدب العظيم يمكن أن يحرّر النفوس من عتماتها، ولكنّه أيضاً يمكن أن يحضّ على العنف إن لم نقرأه وفق سياقه الصحيح. وبهذا المعنى، يمكننا تخيّل كيف انتهت رواية «نوتومب» الجديدة بإراقة الكثير من الدماء!

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©