الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ترجمة الشعر.. أمانة أم «خيانة»؟

ترجمة الشعر.. أمانة أم «خيانة»؟
29 يوليو 2021 01:10

بول شاؤول

هل تشكل ترجمة الشعر مشكلة خاصة تختلف عن سائر الترجمات الأخرى، الأدبية والعلمية والتقنية، كالمسرح والرواية والقصة، وعلم النفس والفلسفة والنظريات السياسية والأيديولوجية؟ هل إن ترجمة الشعر مستحيلة والترجمات الأخرى ميسورة وسهلة؟ مشكلة نقص نص كتابته وخصوصيته، هل هي المشكلة المبدئية؟ هل هي المشكلة الأساسية؟ هل هي المهمة المستحيلة؟ أم أن الشعر فقط، من دون سواه، هو المشكلة وهو الأساس؟ هذه الأسئلة مشروعة ومُلحّة، بقدر ما تعاني مسائل الترجمة عندنا، وربما عند سوانا من الشعوب، من التباسات وأوهام تصل إلى حد سوء الفهم. هناك «رأي» و«انطباع» أو فكرة ربما تحولت إلى «نظرية» مسلّم بها، ومتفلتة من كل إعادة نظر أو مراجعة لا أعرف إلى أي حقبة من تاريخ الناس تعود، ولا أعرف لا من أطلقها ولا من روّج لها، ولا من حوّلها إلى ظاهرة، تقول بأن «الشعر لا يترجم» أو إن «الترجمة تغتال الشعر» أو حتى إن «ترجمة الشعر جريمة لا تغتفر».. أو أن «كل شيء يترجم إلا الشعر»، إلى آخر هذه المعزوفة التي استحالت شعاراً غير محقق، ويافطة فضفاضة معلقة فوق كل نص شعري مترجم. نحنُ لا نعرف ما هي الأسانيد والركائز والتكايا التي توكأت عليها هذه الآراء، سوى قولها إن إيقاعية الشعر، أي تفاصيله الإيقاعية وحتى بنيته الإيقاعية العامة، لا يمكن انتزاعها من عبقريتها اللغوية المكتوبة بها، إلى عبقرية اللغة المنقولة إليها.

الترجمة جسر انفتاح
لنفرض جدلاً أن هذه الآراء صحيحة، فلماذا يجب أن تجوز في الشعر مثلاً ولا تجوز في المسرح أو الرواية أو الدراسة العلمية أو الفلسفية؟ أوليس لكل هذه الأنواع والأجناس إيقاعاتها الداخلية الخاصة بها؟ أقصد، أليس لكل منها «لغتها» الخاصة، أي سرها الخاص؟ فلنأخذ المسرح (والمسرح امتزج بالشعر في أبرز مراحله القديمة والحديثة)، ونقول: أليست ترجمة المسرح خيانة للمسرح أيضاً، وتشويهاً له، ما دامت المسرحية المترجمة تنتزع أيضاً من تربتها الطبيعية والواقعية واللغوية وتزرع في لغتها، وخصوصيتها، ونقلها يقلعها من سرها (حسب نظرية ترجمة الشعر خيانة) ويعتبر خيانة لها، والرواية، وخصوصاً الرواية الحديثة القائمة أساساً على تجريبية لغوية تتقاطع فيها مع الشعر، أوليست تحمل أسرارها الخاصة وعبقرية لغتها الخاصة، وكيميائية لغتها الخاصة، وإيقاعية لغتها الخاصة؟ مثلاً روايات جيمس جويس وفوكنر ودوس باسمسوس وآلان روب غرييه وناتالي ساروت وسدلرز ودنيس روش وميشال بوتور وماركيز وكورتزار، أوليست هي في عمقها مختبرات لغوية تعمل من ضمن معطيات اللغات التي كتبت بها؟ وبالتالي، ألا تشكل ترجمتها خيانة لهذه النصوص الروائية؟
وإذا عدنا، من هذه المنطلقات، إلى الآراء التي تخوّن ترجمة الشعر، فإنها بمنطقها هذا، تطول إلى كل الترجمات ومنطقها يلغي مبدأ نفسه، ينفي انفتاح أي نص مغلق (أجنبي) بالترجمة على نص آخر. إنه يقود الحضارات إلى التقوقع على ذاتها كلغات لها أبجدياتها المغلقة إلى الأبد. يحاصر الحساسيات المتميزة في عبقرية كل لغة في دائرة من الطبشور، أكثر: يعلن هذا المبدأ وفاة اللغات، وعجزها عن استيعاب التجارب الأخرى. إن هذه «النظريات» أثبتت سقوطها. والدليل أن الفكر العالمي، قديمه وحديثه، انتقل بالترجمة من لغة إلى أخرى وكذلك الشعر والأدب والمسرح، وأن كل «النهضات» الأوروبية والعربية، قديماً وحديثاً، قامت وتعمقت على الحوار مع التميز الحضاري الآخر. وتالياً على التميز اللغوي الآخر: أي على انفتاح «عبقريات» الحضارات واللغات على بعضها بعضاً.

مأزق الفذلكة اللغوية
ونعود إلى الشعر، فنقول إن مقولة «الترجمة خيانة للشعر»، قد تكون عائدة في بعض أسبابها إلى مفهوم الشعر في بعض المراحل، وخصوصاً عندما كان مفهوم الشعر يرتبط بمفهوم «الوزن الحسابي»، حيث كانت الأذن هي الدليل الأول إلى القصيدة، والفاصل الحاسم بين الشعر واللاشعر، وربما استمرت هذه النظرية عندما كانت تبرز بعض الاتجاهات الشعرية القائمة على الفذلكة اللغوية كمراحل الانحطاط عندنا، وبعض الاتجاهات البهلوانية في الشعر الفرنسي مثلاً، في القرن التاسع عشر أو في مرحلة الستينيات من القرن الماضي، حتى هذا المنظور نقول لأصحاب هذه النظرية إنهم مصيبون، لأن الشعر الذي يقوم على الفذلكات اللغوية والإيقاعية والاختبارات اللفظية الهشة لا يمكن أن يترجم ولا يمكن أن تكون ترجمته مفيدة. إنه شعر لا يصمد في لغته الخاصة فكيف يصمد مترجماً إلى لغةٍ أخرى.
ومن هنا نقول: إن الشعر الجديد، الشعر الذي يحمل تجربة إنسانية كبيرة ومغامرة لغوية داخل هذه التجربة، هو الذي يتحمل الترجمة وينتصر. نقول أكثر: الشعر الجيد هو الذي يترجم ويبقى منه الكثير الكثير بعد الترجمة، وليس العكس. والشعر السيئ تفضحه الترجمة، تبرز ضعفه وهشاشته عندما ينفصل عن بعض تزويقاته البرائية. ومن هنا نقول إن الترجمة «خيانة» للشعر الرديء، ومعانقة في العمق للشعر المهم.

مَن يترجم الشعر؟
لكن السؤال المهم أيضاً، من يُترجم الشعر؟ من هو المؤهل من دون سواه للقيام بهذه المهمة؟ من خلال تجربتي الطويلة في ترجمة الشعر على امتداد أربعة عقود أو أكثر ومن خلال قراءتي لترجمات آخرين، اكتشفتُ أن الشعر لا يُترجمه إلا الشاعر، ولكن أيُّ شاعر؟ فليس كل شاعر مؤهلاً لترجمة الشعر فهو يحتاج إلى معرفة باللغتين العربية والأجنبية، وأن يتمتع بذائقة مرهفة كي يتمكن من التقاط إيقاع القصيدة وكيميائيتها ويكتشف مفتاحها ولعبتها. وهنا أقول بكل وضوح: إن الشعر الحديث ما زال يتعلق بمسألة اللغة وهذا يعني، أن المترجم ينبغي أن يكون عنده اطّلاع على كافة المدارس الشعرية الرومانطيقية والرمزية والسوريالية والدادائية وحتى البصرية... تماماً كما إن المسرح لا يُترجمه إلا ابن المسرح، ابن المهنة، الكاتب المسرحي الذي يتمتع بثقافة مسرحية عالية، ونظن أن ترجمة الشعر العربي عرفت مترجمين كباراً وعرفت أيضاً أناساً لا علاقة لهم لا بالشعر ولا بالترجمة، يشوّهون ما يتناولونه من دون حسيب أو رقيب.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©