الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

هل هزمت العولمة الشعر؟

هل هزمت العولمة الشعر؟
8 يوليو 2021 00:50

بول شاؤول

عندما ألقت أماندا كورمان بتألق منبري لافت قصيدتها في حفل تنصيب الرئيس بايدن، اكتسبت فجأة شهرة عالمية.. شاعرة في الثانية والعشرين، نالت في سن السادسة عشرة جائزة أفضل شاعرة شابة في الولايات المتحدة.. وها هي اليوم «تكتسح» العالم بقصيدة مناسبية بعنوان «التلّة التي تسلقناها» كإحالة على «تلة» الكابيتول حيث اجتاح مؤيدون لترامب مبنى الكونغرس في يناير الماضي.
قصيدة مناسبية، لا يمكن مقارنتها، كقيمة بحد ذاتها لا بالقصائد المدحية العربية القديمة والحديثة لضعفها وسطحيتها ولهجتها الخطابية الرنانة، ولا حتى مقارنتها بشعراء شعبيين كما بريفير وأبولينير وبول جيرالدي، بل لا يمكن أن تقارن لضعفها وتراكيبها التقليدية الهزيلة، لا بقصائد أحمد شوقي وخليل مطران والأخطل الصغير والجواهري في قصائدهم المناسبية والوطنية العصماء. 
قالت أماندا بعد «الانفجار» الشعبي الكوكبي حول قصيدتها «كنت آمل أن تبقى كلماتي في الذاكرة، لكن لم أكن أتصور حتى في الحلم أن أصبح موضع اهتمام في كل العالم».
ومن يقرأ قصيدتها يكتشف أن لغتها مستوحاة من الفن الخطابي الشفوي ومن الراب والسرمون... وربما الروك.

عودة القصيدة
وقد أعجب بهذه «المعجزة» كثيرون، لأنها أعادت القصيدة والشعر بالنسبة إليهم، إلى قلب الحدث السياسي، وإن بطريقة إنشائية لا يشوبها «غموض» لا بودلير ولا رامبو ولا مالرميه ولا إيف بونفوا، ولا ردسوس... فهؤلاء وسواهم بالنسبة إلى هذه الموجة «أسروا الشعر بالنخبوية» يكتبون لفئة صغيرة جداً، ولا يبيعون من كتبهم أكثر من عشرات أو مئات النسخ!.
ولأن كثيرين رأوا أنها موجة جديدة للشعر، قائمة أساساً على التبسيط والتيسير، والفورية وحتى الارتجالية، فقد أنقذتهم من عبء فك الرموز والأحاجي، فما الإنترنت والفيسبوك وتويتر وواتساب وسائر وسائل الميديا إلا مكان لاحتضان قصائدهم الجديدة، هي أمكنة وحيهم العمومية «المقدسة»، وهذا ما يؤمّن انتشاراً سريعاً لهم، وقد يجذب مليون مشاهدة في الساعة!، كما هي حال الأغاني الهابطة اليوم، بل إنهم قد يتجاوزون أحياناً النشر في دواوين الشعر لأنه لم يعد موجوداً فقط فيها بل بكل الأماكن، وبكل اللهجات، والأنفاس، والصراخ، والصياح، بالشفوي الفصيح وبالرقص. يستلهمون مادته من كل شيء، من الكباب إلى الستيك والبيتزا والهوت دوغ، والساحات والمواقف السياسية ضد العنصرية (وربما غداً معها)، وفي الأعياد الوطنية، والحزبية، والأعراس وفي القطارات والحافلات والطائرات... والسطوح. 
الشعر والشعراء موجودون في كل مكان، وفي كل زمان ولا يهمهم لا ثقافة شعرية، ولا لغة، ولا تراث، ولا تأمل، وعلى هذا الأساس فتحت دور النشر في كندا وأميركا وفرنسا.. أبوابها لشعر هؤلاء، وكذلك صفحات المجلات والمنشورات الأدبية بعدما كانت تأنف نشر الشعر لأنه لا يبيع ولا يُربح، صارت الكمية هي القاعدة سواء كمية المردود المالي، أو كمية المشاهدين أو السامعين أو الشعراء.
إن هذا التهليل لمثل موجات «آخر موضة» لا يعتبر انقلاباً كبيراً على القصيدة وعلى الشعراء الكبار فقط، بل نتوقع أن يطاول كل الفنون والنتاجات الروائية والقصصية والفلسفية، والتي يُحكم على قيمتها بكمية توزيعها، وبيعها. إذاً، دخل الشعر «زمناً» جديداً كان قد تجاوزه، متمثلاً بالعولمة، وانتصر عليها، لكيلا يتحول سلطة استهلاكية كما بات الحال مع روايات «البيست سيلرز» وأفلام المؤثرات الصوتية والضوضاء بما تحمله مثل هذه الأفلام من خواء، وتفاهة!

ثورة الشعر 
والغريب أن فرنسا، التي جسدت إلى حد كبير ثورة الشعر الجديد في العالم مع بودلير، ومالرميه، ورامبو، ورينيه شار، واندريه بريتون... فتحت صفحاتها بجود وكرم، ومجلاتها ودور نشرها لمثل هذه النتاجات الفيسبوكية، للترويج لها، والإمعان في تناميها لحسابات مادية، بل إن هؤلاء الكبار باتوا عبئاً على الجماهير وعبئاً على الأذن والعين والفهم والاستفهام.
إذاً، أين هي تلك التجارب الطليعية الحديثة الرائدة، والمدارس، التي عرفناها في القرنين الماضيين في فرنسا، أو في إسبانيا والتشيلي وأميركا اللاتينية، والولايات المتحدة، والعالم العربي... وأفريقيا.
ألم يكن شعر بعض هؤلاء الملتزمين في قلب الحدث السياسي، أمثال نيرودا وألبيرتي وناظم حكمت، وأراغون، ولكن بنتاجات هي إلى شعبيتها، لا تسقط في الابتذال الإعلامي والاستهلاك وكأنما صار للشعبوية أيضاً شعرها وربما غداً لوحاتها، وأفلامها، ومسارحها...
أو لم يكن هناك شعر بسيط، قريب غير غامض، كما عند جاك بريفيير، الذي يقرؤه مئات الألوف في فرنسا، وغيرها.. ألم يكن هناك شعر شفوي رائع، غير هش، ألم يكن هناك شعر جسدي شفوي يقدم في ساحات المهرجانات؟.
ما يقوله هؤلاء المطبلون لهذه الموجات «المعولمة»، أن الشعر بات اليوم مسيساً، وحميمياً، أو لم يكن موجوداً أيضاً، ضمن تعددية (تجريبية) أو عفوية تجافي القولبة، والتنميط، والتسطيح، وهذه الموجة «التكنولوجية» الإعلامية «العمومية، أصبحت موجودة عندنا أيضاً في العالم العربي، بفضل الفيسبوك والإنترنت وأجهزة الخليوي، وصرنا نحس أن الشعر بات «لعبة» يومية (كألعاب الفيديو) يخترقه كل من هب ودب، بقصائد سريعة عجلى، وقصيرة الأمد، يتبادلها من فوريتها شعراء لم يعد لهم أن يبنوا ثقافة شعرية جدية، ولا أن يرجعوا إلى ينابيع التراث واللغة، ولا أن يشعروا بفضولية للاطلاع على الشعر العالمي والعربي... بل يكتفون «بمواهبهم» المرتجلة، الآنية (كموجة الأغنيات الرديئة التي تغزو شاشاتنا وإذاعاتنا).
نظن أن ما يحدث اليوم في العالم من تغيرات، وتحولات، وارتجاعات في الشعر، قد يزحف إلى كل القطاعات الروائية والفكرية والسياسية والفنية، حتى يصبح كل شيء منوطاً بالشاشات، والأعمال والنصوص التي لا تعيش أكثر من مدة كتابتها أو نشرها أو إلقائها.
إنه الانحطاط المُعولم يعمّ كل وجوه حياتنا.. وأفكارنا وعيوننا، وذاكرتنا، ومخيلاتنا!
يدّعي أصحاب هذه «الموجات» أنها تمثل «ديمقراطية الشعر وسواه»، ولكن كل ديمقراطية معممة تقدم على القيم الكبرى والمستويات الراقية، والأعمال المعرفية المعمقة، وليس على الجهل والتجاهل، والاستسهال... والنرجسيات الجوفاء.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©