الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

العرب.. ومواكبة خطى العالم معرفياً

العرب.. ومواكبة خطى العالم معرفياً
24 يونيو 2021 00:47

د. عزالدين عناية

تُواجه المتابع للأوضاع المعرفيّة السائدة في مجاليْ العلوم الإنسانية والاجتماعية في البلاد العربية جملة من الأسئلة، تتعلّق بمواكَبة النسق العالمي في حقول معرفية وبحثية مؤثرة ومصيرية، وما تقتضيه من تشابكات كونية تدعم إنتاج خطاب فاعل وعملي، له من السندات العلمية والمنطقية والروح الحداثية، ما يجعله مقدَّراً ومعتبَراً في الساحة العلمية العالمية، وتتعلّق تلك الأسئلة المطروحة أيضاً بمهمة الأكاديميات العربية في تلبية الحاجات الملحة من أجل ترشيد الثقافة، للسير باتجاه الحداثة والتنوير والانفتاح على العالم، والإسهام في بناء مشترك كوني دون توارٍ خلْف ما يسمّى بالاستثناء الحضاري.
في حقيقة الأمر لا يشكّل هذان المعطيان: المواكَبة السائرة ضمن نسق عالمي، والترشيد الحاضن لتطورات الداخل، خياراً استراتيجياً ضمن أدوار المؤسسة الجامعية العربية الحالية سوى في حالات حصرية محدودة، لِما يتخلّل كثيراًَ من جامعاتنا من وهنٍ معرفي وارتباك منهجي وغياب في الرؤية، جعلها غير قادرة على خوض أي منافسة علمية، أو إنتاج أعمال بحثية ومعرفية، تستجيب للمعايير الأكاديمية المتعارف عليها، فباتت مؤسساتنا بالكاد تلبي الحاجات الوظيفية التي بُعثت من أجلها، ولذلك غالباً ما يصطدم الخطاب الثقافي العربي، وحتى الأكاديمي منه، بلامبالاة في الساحة المعرفية العالمية، لفقدانه الشروط الأولى التي تؤهله للحضور ضمن دائرة الاحتفاء والنقاش والتأثير عالمياً.

تفاوت زمني ومعرفي
والخروج من هذا الوهن ليس مستحيلاً ولا مستعصياً، لو صيغت استراتيجيات واضحة وهادفة وواعية بخطّها المعرفي والتنويري في آن، وملمّة بالتحولات الثقافية والبحثية العالمية، ولاسيما في مجاليْ العلوم الإنسانية والاجتماعية، فما من شك أنّ الأكاديمي العربي في الداخل، في مجالات الفلسفة وعلم الاجتماع والدراسات الحضارية والإسلامية والتاريخ المعاصر ودراسات الحضارات والأديان، يدور في غالب الأحيان حول قضايا ومنظورات محلية، ويستهلك إنتاجاً محلياً، ويستعين بمناهج قاصرة أو محدودة التشارك، وإن حاول تطعيم ما لديه بمقول داعم مستوحى من الآخر، فهو غالباً ما لا يدرك الفارق الزمني والمنهجي الذي يَحُول دون إنتاج خطاب نِديٍّ يحظى بالتناصت من الطرفين، فهناك تفاوت زمني ومعرفي وإشكالي بين الطرفين، العربي والغربي على سبيل المثال. 
ومن النادر أن تجد أكاديمياً مواكباً للحراك العالمي، الفكري والثقافي والمنهجي، لأنّ المواكَبة وببساطة لا تصنع في يوم وليلة، بل هي نتاج تراكم وخلاصة تتبّعٍ دؤوب لواقعين معرفيين، محلي وكوني، فالأكاديمي المكتفي بنظرة داخلية والمعوِّل على إنتاج محلي، في أي حقل من حقول المعرفة، ما عاد قادراً على إنتاج خطاب مؤثر ومقبول على نطاق واسع مَهْمَا تسنّى له من سحر الخطاب، لأنّ مقوله ما عاد ملمّاً بمقتضيات اللحظة التاريخية المعولَمة التي أضحت تتحكم بفعل الخطاب وأثره، وتمنحه تلك المتانة المطلوبة.

  • بيئة معززة لروح البحث ومحفزة للتعلم (من المصدر)
    بيئة معززة لروح البحث ومحفزة للتعلم (من المصدر)

حاجة حضارية
ومن هذا الباب يلوح إنشاء جامعة للعلوم الإنسانية على النحو الذي تتطلّع إليه جامعة محمد بن زايد الواعدة ضرورة إبستمولوجية، فضلاً عن كونها حاجة حضارية، حتى نعدّل ساعة الثقافة العربية على ساعة المسار الثقافي الكوني، ولنقف على مستوجبات مواكَبة تحولات الفكر العالمي في مساراته الفاعلة، وعلى هذا الأساس تَبرز في الواقع العربي وفي الثقافة العربية حاجة ماسّة إلى مؤسسة أكاديمية ريادية تكون نبراساً في تحمّل هذه المهمة الطليعية، وفي وضع خطى الدرس العلمي ضمن النسق العالمي المطلوب وتصحيح مهمّة الدارس بإيجاز لغرض فهم لغة العالم والتخاطب معه، ومن ثَمّ الإسهام في صنع الحركة الكونية التي باتت الثقافة العربية متعثرة أو لنقل متخلّفة عن مواكَبتها.
أثناء مشاركة لي في مؤتمر علمي عُقد في جامعة عربية، تناول قضايا المنهج في دراسة الظواهر الدينية، راعني أحد الأساتذة المشاركين، فبعد اطلاع خاطف على سيرتي الذاتية علّق هازئاً، وليس مازحاً أو مادحاً، وكنت رئيس الجلسة حينها: لديك سيلٌ من الكتابة وفيض من الأبحاث والترجمات حدّ الإطناب! فاكتفيت بالصمت لأن الوقت والظرف لا يسمحان بالدخول في جدال ونحن على منصة علمية.. أستحضر ذلك ضمن هذا السياق، لأنّ شلةً من الجامعيين لدينا أدمنوا الكسل والتقاعس، وبات لا همّ لهم سوى البحث عن الترقي الوظيفي وحيازة المناصب والتحكم في دواليب المؤسسات، إذ ليس هناك إدراك أن الجامعة الغربية التي أضحت رائدة عالمياً، هي مجالٌ للتنافس المعرفي والابتكار والتجديد وصنع القوة الحضارية، ولا مجال للتواكل والقعود فيها، لأنه لا كاريزما للجامعي، ولا سلطة له، سوى بمنتوجه الإبداعي والمعرفي، إذ هناك حالة من الانكباب على إنتاج المعرفة في الجامعة الغربية تشبه الكَلف الصوفي، وهي بالفعل حالة من التصوف العلمي تفتقدها كثير من جامعاتنا التي تحولت إلى هياكل مقعّرة.

مدوَّنة أخلاقية
في جامعة روما التي أشتغل فيها منذ سنوات، يتعهّد كل منتمٍ جديد للجهاز التعليمي والبحثي بمدوَّنة أخلاقية، تَحُول دون امتهانه مهنة أخرى بعيدة عن مجاله البحثي والتدريسي والعلمي والمعرفي. وعندما أعود إلى البلاد العربية دورياً، أجد بعض زملائي الجامعيين من مدرّسي العلوم الإنسانية والاجتماعية والدراسات الدينية يشتغلون إلى جانب عملهم في الجامعة في الزراعة والتجارة وتربية المواشي وما شابه ذلك، وإن أنتجوا مؤلَّفاً فهو بالدفع لدار النشر وبنسخ محدودة لغرض استكمال ملفّ الترقّي في السلّم الوظيفي! ولا أقول إن الجامعي الغربي يعيش في بحبوحة مادية تجعله ينكبّ على حقل دراساته وأبحاثه، وإن الجامعي العربي يعيش حالة كفاف أو خصاصة، كلّا، وإنما هي أوهام أدمنّاها عن الواقع الغربي، بل هناك مظاهر جشع وأبّهة ورياء تستشري في أوساط الجامعيين العرب تَحول دون السير في النهج السليم، وهو ما أنهك جامعاتنا وأضرّ بقدراتنا العلمية.
فأن تكون هناك جامعة ريادية على النحو الذي تتطلّع إليه «جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية»، ما الذي تعنيه وهي تضع نصب عينها مهمة التنوير والتواصل مع العالم؟ ما من شك أننا نقف على أرضية حضارية راسخة، تشكلت على مدى عصور، واستندت إلى معارف وعلوم ومدوّنات وتجارب، بَيْد أننا في زحمة هذا الموروث بتنا غير قادرين على إدراك حاجاتنا وأولوياتنا.. نُغرق الدارس في موروثنا اللغوي أو الأدبي أو التاريخي أو الفقهي وما شابه ذلك، دون أن نمنحه القدرة على التعاطي مع العالم، ودون أن نمكّنه من المناهج الحديثة التي تيسّر له التواصل المعرفي مع نظرائه في هذا العالم، ما جعلنا نُنتج كائنات تراثية في مجالات عدة دون قدرة لها على الإبداع والابتكار أو الخروج من أسر الرؤى والمنظورات السالفة، وبالمثل دون إحاطة باللحظة التاريخية الآنية والتطلع للمستقبل بأريحية وثبات.. لقد تحول الرصيد الحضاري لدينا في عديد من المواضع إلى عائق حضاري لفقدان منهج التعامل الرشيد مع هذا المخزون الهائل.

بناء مشترك إنساني
ومن جانب آخر نرنو إلى التواصل مع العالم والإسهام في منجزاته، المعرفية والقِيمية، وذلك لغرض بناء مشترك إنساني يعود على البشرية جمعاء بالنفع والخير، غير أننا تعوزنا القدرة العلمية لبلوغ هذا الهدف النبيل، فلو أتينا إلى مجال التواصل مع الأديان والحضارات الأخرى نلاحظ الفقر المنهجي الذي لا زلنا نتعاطى به مع دراسة ظواهر القداسة ومع الأديان الأخرى. توالدت مقاربات متنوعة تاريخية وسوسيولوجية وأنثروبولوجية وظواهرية، باتت السبيل للتواصل مع العالم في حقل الحضارات والأديان الأخرى، لا زلنا نغفل عنها أو لا نوليها أي اهتمام، وثمة حقول معرفية في حاجة إلى الدراسة لا ننتبه لدورها، مع أننا في أمسّ الحاجة إلى فهم لغة عصرنا وإلى أين يسير، ولذلك نحن في حاجة إلى مؤسسة جامعية واعية بلحظتها التاريخية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©