الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أفريقيا والاحتفال بالمُتَخيَّل

أفريقيا والاحتفال بالمُتَخيَّل
17 يونيو 2021 02:31

محمد نور الدين أفاية

لا شك في أن إدماج المعرفة، في كل مجالات البحث والعلم، يساهم في فهم المجتمعات والإحاطة بالتحوّلات العميقة التي تعتمل داخل المؤسسات والمجتمعات والاقتصادات، ومنها الأفريقية. ومن شأن هذا الإدماج أن يُمكّن من إعادة النظر في نموذج «براديغم» التفكير والمقاربات المعتمدة من لدن الباحثين الأفارقة، من أجل بلورة تحليلات ملائمة للتغيّرات العميقة التي تشهدها بلدانهم، وللظواهر المجتمعية والثقافية التي تؤثر بشكل خاص على هذه المجتمعات، ولاسيما منها ما يمس الشباب منهم. كما ستساهم هذه النظرة الإبستمولوجية في تغيير المفاهيم بما يسمح باعتماد آلية جديدة للدراسة النقدية للمجتمعات الأفريقية.
يتعلق الأمر هنا برهان بالغ الأهمية، ولاسيما بالنظر للمعيقات وأشكال المحدودية التي يواجهها الباحثون الأفارقة فيما يتعلق بظروف البحث وبيئة العمل وحرية التفكير والمبادرة. غير أنه لم يعد من المُجدي الاستمرار في التشكّي من آثار الفترة الاستعمارية ومخلفاتها. ومن مساوِئ الاستعمار الجديد، ولا إضاعة الجهد في انتقاد محموم لإرثهما، لأنه بات من الضروري الوعي بالمعيقات التي تعرقل التفكير في أفريقيا والبحث في أحوالها ومفارقاتها.

هبّات الوعي
وفي هذا السياق تُلاحظ، من حين لآخر، هَبَّات من الوعي ترمي إلى إعادة تَمَلُّك أفريقيا كموضوع للبحث في كل أبعادها، كما هو الحال بالنسبة لمبادرة فيلوين صار (Felwine Sarr) وأشيل مبيبي (Achille Mbembe) اللذين أطلقا ورشات للتفكير منذ سنة 2016 بالسنغال، وذلك من أجل مساءلة ظروف الكتابة والتفكير حول أفريقيا والعالم. 
ويتضمن المؤلف الذي يضم أشغال النسخة الأولى لهذه الورشات نصوصاً تعالج جملة من الإشكاليات من قبيل: مفهوم الخروج من هيمنة نمط الفكر والعيش الواحد الموروث عن الفترة الاستعمارية، أو ما يمكن أن نسميه «إنهاء مخلفات الكولونيالية» (Décolonialité)، كما قَعَّدَ لها المفكر الزيمبابوي ندلوفو-غاتشيني صابيلو (Ndlovu-Gatsheni Sabelo)، ودراسة «إمكانيات بلورة يوتوبيا اجتماعية»، و«الوضع المعرفي للمسألة الأفريقية»، و«البحث عن أنماط جديدة للتفكير حول السياسة والاقتصاد والمجال الاجتماعي والثقافي»، و«رهانات المتخيَّل»، و«الآفاق المحتملة للتوفيق بين الكونية والخصوصية»، ومسألة «تقدير الذات والعيش المشترك». ويترجم هذا الأمر رغبة جماعية في المعرفة، ويحيل على نظرات ورؤى متقاطعة، كلها مدعوة لإعادة التفكير في واقع البلدان الإفريقية في تحولاتها المستمرة وفيما يطبعها من مفارقات.

تموْقُع جديد
ولا يعبر هذا التوجه الفكري الجديد عن نزعة عابرة من أجل تموقع جديد «لمثقفين» يريدون إعادة صياغة الانشغالات المنهجية لمن سبقوهم من المفكرين، أو إلى إعادةِ إنتاجٍ ساذجة لتساؤلاتهم، بل إنها مقاربة مختلفة لتلك الانشغالات والأسئلة، على ضوء الآفاق الإبستمولوجية الجديدة المُبتكرة، وبالنظر إلى الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الجديد للعالم. إن الأمر يتعلق أساساً بمساءلة حاضر أفريقيا ومستقبلها في سياقات عالمية مضطربة جراء تعاظم سلطة المال والعنف والفوارق والتفاوتات، والتي تزيد من حدتها التحولات الديمغرافية الجديدة وما تُولده من حاجيات ضاغطة.
وبالرغم من عدم وجود حقل أكاديمي أفريقي قائم الذات، يمكن القول إنه خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تَكَوَّنَ جيل من المثقفين الأفارقة وفرض نفسه في مختلف بلدان القارة وفي كبريات الجامعات عبر العالم. وبدأت تتشكل صور جديدة للمثقف الإفريقي، الذي مهما كانت الانتقادات الموجهة له، بات من الممكن تقييم وضعه على ضوء إنتاجاته الفكرية وعمله المؤسساتي، وقدرته على توليد النقاش وإثارة الحس النقدي.

المثقف الأصيل
لقد سبق للمفكر الكاميروني فابيان إيبوسي بولاغا Fabien Eboussi Boulaga (2018-1934) في مقال له سنة 1993، بعنوان «المثقف الإغرابي»، أن تناول قضية المثقف الإفريقي برؤية نافذة للأشياء، حيث طرح السؤال التالي: «هل يقدر مجتمعنا على تخصيص مكانة للوظيفة الفكرية، كما يستفاد من التاريخ الغربي؟». ولمقاربة هذا السؤال، يرى فابيان إيبوسي بولاغا أن هذه الصيغة تقترح علينا أولاً، أخذ إرث المعنى الذي يحمله تاريخ كلمة «مثقف»، ثانياً، مقارنته بالاستعمالات والممارسات المعمول بها عندنا، ثالثاً، تحديد الموقف الذي يفرض نفسه كإجابة أو كمهمة.
وفي سياق إعادة التملك الفكري لأفريقيا كموضوع للتفكير ومجالات ترابية متعددة الانتماءات، مَيَّزَ فابيان إيبوسي بولاغا بين «المثقف الصوري» الذي يعتبره كائناً لا يتقبل نفسه، ويتهرب من مواجهتها مواجهة جدية، بما فيها مواجهة النموذج الفكري الذي اعتنقه بعدما تنكر لذاته ولبني جِلدته. ومن فرط رغبته في العيش في ثقافتين وعالمين، فإنه لا يجد نفسه في أي منهما، بحيث يصير كائناً بلا معالم. وفي المقابل يشير فابيان إيبوسي بولاغا إلى ما يسميه «المثقف الأصيل» الذي يبقى في نظره شخصاً واعياً يعيش على الهامش.
وعلى الرغم من هذا الوعي الموجود على الهامش، يعتبر بولاغا أن للمثقف الأصيل دوراً أساسياً داخل المجتمع. وهو دور يقوم على نشر المعارف وتربية الأفراد على استقلالية التفكير، والبحث الدائم عن المسارات المؤدية إلى إعمال العقل في اكتماله ونضجه، واقتفاء آثاره ورموزه، واكتشاف الأمور المفيدة للمجتمع ولارتقاء أفراده حيثما كانوا.
ويرى بولاغا أن «مهمة» المثقف في البلدان الإفريقية تكمن في تجاوز الصراعات حول المصالح والحروب الداخلية التي تمزق البلدان والجماعات، والعمل على التنديد بأشكال الجهل التي تذكي التوترات، والسهر على النهوض بالقيم والمبادئ الأساسية للعيش المشترك.

كتابة أفريقيا
ومن جانبه، بدأ أشيل مبيبي، عملية انكبابه على التفكير في أفريقيا، أو كما يحلو له تسميتها «كتابة أفريقيا» انطلاقاً من خلل عاينه في بداية سنوات التسعينيات. وقد كان عمله في بادئ الأمر مطبوعاً بنوع من التشاؤم حول مصير القارة، معتبراً أنه ليس من المؤكد أن نشهد قيد حياتنا شيئاً آخر غير المعاناة، على اعتبار أن الرجال والنساء، بل حتى الأشياء في أفريقيا ترفض سلوك الوجهة الصحيحة وبالطريقة الصحيحة، وأن وقت انتظار التغيير قد طال أمده، وأن أفريقيا السوداء تتمزق وتغوص في هوة سحيقة من النسيان وقد أعرض العالم عنها. وعلى الرغم من هذه النظرة اليائسة و«السوداوية» التي بصمت مقاربة أشيل مبيبي في بداية الأمر، فقد كان على قناعة بضرورة التحلي بواجب مقاومة تبعات «سوء طالعه الوراثي» ورصيد انتمائه لأفريقيا، لأنه كان، على غرار مفكرين أفارقة آخرين سبقوه، يضع تفكيره في سياق ما يسميه جان فرانسوا بايار (Jean-François Bayart) بـ«ابتكار الذات المُفكرة».

تحرير العقول
ومن أجل تعزيز إعادة بناء وتشكيل هذه «الهوية» الجديدة، استلهم أشيل مبيبي منهجية فرانز فانون (Frantz Fanon) الذي كان يدعو إلى تبني أشكال من النضال والمقاومة تقوم على ما يسميه «الاحتفال بالمتخيل».
ولكي يتحقق الاحتفال الفعلي بهذا المتخيل يتعين إعادة بناء تصور جديد للجسد الأفريقي، في نظر أشيل مبيبي، باعتبار أن هذا الجسد نال الاستعمار من شرفه، وعرَّضه للتدنيس والاغتصاب والتدمير. ولإخراجه من دائرة السُّبات والجمود، يتطلب الأمر إنعاش هذا الجسد وبث الروح في أوصاله حتى يستعيد الحركة. 
ولا جدال في أن المثقف يدرك أن الأمر ليس مجرد أمانٍ أو أوهام، وأن الواقع الإفريقي في منتهى التعقيد، كما أنه يدرك أن عليه التفكير من داخل هذا الوضع المعقد. ولذلك وجدنا أشيل مبيبي ينخرط، بمعية الغالبية العظمى من المثقفين الأفارقة، في معركة فكرية من أجل بناء تمثل جديد لأفريقيا، بدءاً بمواجهة آثار الاستعمار، والانزلاقات المتعددة التي طبعت التجارب السياسية لمرحلة الاستقلال. ولتحقيق هذا المسعى، كان لزاما القيام بـ«تحرير العقول من تبعات الاستعمار» وحث الشباب على تعلم الانفتاح على العالم والتعامل معه على أساس مبدأ مركزي تكون فيه أفريقيا مالكة لمصيرها وغير تابعة أو مرتهنة بأحد.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©