الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أحمد الحقيل يستصحب الذاكرة مأوى للحكايات.. العودة إلى البيت

أحمد الحقيل
3 يونيو 2021 01:43

صالحة عبيد

في مجموعته القصصية «بيت» الصادرة عن دار «روايات» الإماراتية، يحملك السارد السعودي «أحمد الحقيل» إلى المكمن الفعلي، الذي تشي به بساطة العنوان وتؤكد في موضع آخر دقته كذلك، أنت الآن في البيت، بيت الذاكرة بشكل فريد غير متورط بابتذال النوستالجيا، كلما أتينا على ذكر الذاكرة، حيث الغرف العديدة المتوزعة باطراد يتوازى مع عدد ساكينها ومع النقلات الزمنية لإيقاع الشخوص في كل نص على حدة وفي حيوات الشخوص المجتمعة، لتجد نفسك داخل المأوى الضخم للحكايات، يقودك أحدهم للمطبخ وآخر للساحة الخارجية، وثالث لغرفة النوم، ورابعٌ للحمام، وخامس يتمرد فيقودك إلى السطح، قبل أن تقفزا معاً إلى خارج السور، لتجد نفسك مرة أخرى في بيت آخر متنقلاً وقافزاً ومسترسلاً.

«تلحُّ، تلحُّ.. مثل صداع» 
تأتي استفاقة الشخوص في حكاياتها السردية على أشكال قفزات في الزمن والمكان وومضات متكررة وصفها «الحقيل» في حكاية من حكاياته بأنها «تلحُّ كالصداع»، لكأنك تتسلل إلى الذاكرة/ البيت لكل شخصية من الشخصيات، وسواء كانت الشخصية هي التي تروي حكايتها، أم أن «الحقيل» يمثل دور الراوي العليم في حكايات الشخوص في نصوص أخرى، فإنك لا تخرج عن رتم القفزات المختزلة وأنت في داخل ذلك الرأس الذي يروي شطحات ذاكرته. 
يقول «الحقيل» على لسان شخصية من الشخوص السردية: «إن الذاكرة تجعلك تبدو وكأنك لم تعش إلا عدة ساعات على امتداد شبابك، أين كل ذلك الزمن إذاً، كل ذلك السياق المعاش الضخم؟ وكأننا كبسولات، ولو أن قوة عظمى أرادت التحكم بنا، فإن من السهل أن تسيطر علينا وفق ذكريات مختلقة على شكل كبسولات مختزلة تكفي لصنع حياة كاملة، لربما لم تكن! 
الكتابة تفعل الشيء نفسه، تختزل أكثر مما ترصد، وتلتقط أكثر مما تجمع، وهذا ما أفعله الآن، هذا ما تفعله القصة، اختزال لسياق ضخم»! وفي هذا الاسترسال تتكشّف وتتجلّى ديناميكية هذه المجموعة القصصية. 

«الدائرة.. عَوْدٌ متكرر» 
تشعرك الشخوص بأنها تنطفئ في كل نص لتعود فتتوالد في نصوص أخرى وفي حياة أخرى، إنها الشراكة الجغرافية والسؤال الوجودي لغالب أبطال المجموعة، التي تشعرك بأن جذراً ممتداً يجعلك تواجه رجلاً واحداً متكرراً في كل رجال الحكايات في البيت، أو امرأة واحدة متكررة يلتبس عليك اسمها في كل نص، وطفلٌ لربما كان هو نفسه الذي مر بك قبل قليل، تكشف لك هذه الشخوص المتوالدة في لمحات مما تقوله أو تتأمله أو تأكله أو ما ترتديه المجتمعَ بكافة أبعاده الحياتية والاقتصادية، وتشكُّل طبقاته وعلاقاته التي حملت أحياناً ثنائية الرجل والمرأة.. ثنائية الأجيال، ثنائية المألوف والآخر الغريب وغيرها.. في تفاصيل لم يهضم حقها السارد على حساب التكثيف السردي، وهو توازنٌ لافت يحسب للمجموعة. 

«الحياة في الذاكرة بكامل غرائبيتها» 
تحيلك الذاكرة أحياناً إلى مواضع تكون أقرب للفانتازية منها للواقعية، فأنت كلما ابتعدت عن الحدث زمنياً، اكتسى بهالة أسطورية تحتمل شيئاً من اللامنطق، وهذا ما أكسب بعض النصوص ذلك البعد الغرائبي، والذاكرة تصنع أساطيرها الخاصة في مواضع الالتباس والتشوش، فتجد لذلك سياقها المبرر وأنت تقرأ نصاً واقعياً، فالذاكرة التي تصنع القصة هنا تسد المجهول بالمخيلة التي لا يحدها شيء، المخيلة التي تأتي لتشكل هنا متن العمل السردي وتؤكد وجودها في التمرد على الواقع الصرف الرتيب، المكرس لاستعراض حياة أشخاص عاديين بأسماء مكررة وأرقام وأماكن مألوفة، وتمنح كلاً منهم مسرحاً للبطولة الشخصية، وهو ما فتح مساحة في مواضع أخرى للتجريب السردي في بعض النصوص ليعتلي السارد مسرحه الخاص هنا، وهو يجرب في شكل النص ومستوى اللغة وحركة الشخوص، محاولاً أن ينقل القارئ إلى مستوى جديد من التلقي يحفز من خلاله الإقبال على النصوص التجريبية في السرد. 

اللغة في أثرها الملغز 
أتت اللغة في غالب النصوص متوازية مع فكرة التكثيف والاختزال في الصور المتناثرة لكل قصة، مهما تبدت تلك القصص طويلة بعض الشيء للقارئ، إلا أن اللغة كانت متحفزة ويقظة في ما يشبه ومضات التذكر، لها الأثر السريع الملغز أحياناً والبليغ المؤثر في أحيان أخرى، لكن إن كان هناك من عتب صغير على المجموعة ككل، فهو فقط قد يكون في الإسراف في اللهجة الدارجة في بعض النصوص، وهو أمرٌ قد يكون مبرراً في بعض النصوص وفي مواضع محددة، إلا أنه قد امتد لصفحات طويلة في قصص أخرى. ومع وضوح هوية المتحدث وخلفيته الاجتماعية، كان من الممكن الإيحاء بأن الشخصية تتحدث الدارج مع استخدام اللغة الفصيحة، يأتي ذلك وأنا أتخيل متلقياً للمجموعة من خارج منظومة دول الخليج العربي من المهم أن يتطلع بدوره على تطور النص السردي في المنطقة. 
صادف أنني كنت أعيد قراءة يوميات الحداد لرولان بارت مع قراءة مجموعة «أحمد الحقيل»، واستوقفني «بارت» في وصفه لمقتطع من الذاكرة التي جمعته بوالدته المتوفاة وتآكل الحزن في الذاكرة حتى لا يكاد يعدو رتوشاً مقتضبة للحظات بعينها، تومض وتؤلم بأثر مستمر لا يسقط بالتقادم، وهو هنا يتقاطع فيما يمس الذاكرة بمجموعة «بيت»، حيث أثر المشاهد الومضية التي تلحُّ وتتكثف لتصنع حكاية موازية مختزلة وفيها ما يرتق ما بين الومضات بالمخيلة، وفيما كان «بارت» يكرس تناوله لتلك الومضات بأثرها الحزين القاتم، فإن «الحقيل» يتوسع لتتناول الومضات خليطاً واسعاً من المشاعر الإنسانية المتكررة بين القتامة والسطوع، حزناً وقلقاً وغضباً وخوفاً وفرحاً وانبساطاً ونشوة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©