الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الترجمة.. أداة تحديث

الترجمة.. أداة تحديث
8 ابريل 2021 00:26

عبد السلام بنعبد العالي

قدم المترجم المصري القدير المرحوم عبدالغفار مكاوي، في مؤتمر للترجمة بالقاهرة، عرضاً تحت عنوان «تقرير حالة». وقد تضمَّن العرض، من جملة ما تضمّنه، نقطة مهمة جعلته يرقى في نظري من مجرد «تقرير حالة» إلى تشخيص ظاهرة. وهذه الظّاهرة هي ما عبّر عنه المرحوم، بشيء من الحسرة، بكون جميع الترجمات التي أنجزها على تنوعها «وُلدت ميتة». ولعله كان يشير بذلك إلى أن الترجمات العربية الجيّدة التي تظهر لا تحرّك ساكناً، ولا تلقى استجابة، ولا تثير انتقاداً، ولا تُستثمر، ولا تُوظَّف، ولا تدخل في شبكات فكرية جديدة وعلائق أخرى. ومجمل القول إنها لا تلقى استجابة في سوق التبادل المعرفي. 
كنت أخذت على المترجم المصري كونه عرَض الأمر، وكأنما لا يعنيه إلا هو بالذات، في حين أنه يبدو راجعاً لفاعل يتجاوز الأفراد والأشخاص المترجمين. ذلك أن الذات الفاعلة في عملية الترجمة هي اللغة ذاتها. ونعلم أن الترجمة لا تأتي دوماً عندنا استجابة لدعوى فكرية. فهناك من الترجمات ما يتولد نتيجة قرار مؤسسي، ومنها ما يجيء استجابة لحدث ثقافي كموت مؤلف أو حصوله على جائزة. 

ترجمة النصوص الكبرى
لقد مضى زمن كانت فيه ترجمات النصوص الكبرى تتم في سياق شامل. فعندما ألقى المرحوم محمود الخضيري بترجمة «المقال في المنهج» في السوق الفكرية، كان ديكارت «يعمل» في الحقل الفلسفي العربي، ولكن أيضاً في المنهج الفكري، والدراسات الأدبية. كان ديكارت «شغالاً» في الحقل المعرفي بكامله. وآنئذ كانت الترجمة جزءاً من كل، وطرفاً في حركة شاملة. فكانت تُولد حيّة، بل وتوَلِّد حيوات. فلا عجب أن تظهر ترجمات ثانية بل وثالثة للكتاب نفسه. أما حينما تجد الترجمة نفسها يتيمة غريبة، أي خارجة عن السياق العام، فمن الطبيعي أن تولد ميتة، أو على الأقل أن تولد مع وقف تنفيذ، في انتظار جوّ فكري يوظفها ويستثمرها، ويعارضها ويصحّحها بل وربما يعيد ترجمتها أيضاً.
ومردّ هذا الأمر، في نظرنا، هو أننا غالباً ما ننظر إلى الترجمة في عالمنا العربي على أنها مجرد عملية تمهيدية، وأنها نوع من التهيؤ للنصوص الكبرى كي تغدو متيسّرة للقارئ العربي الذي ينوي الاشتغال عليها، وإعمال الفكر فيها. وتُطرَح الترجمة هنا بمعزل عن المخاض الفكري، فتُفهَم أساساً على أنها، مثل التحقيق، سعيٌ لتوفير النص لمن يعتزم الاشتغال عليه، ومحاولة لتوفير «أمهات» النصوص ووضعها «بين يدي» القارئ. فهي، بهذا المعنى، لحظة سابقة ممهّدة لكل إِعمال فكر.

الترجمة والفكر
ولكن ماذا لو كان نصف عملية إعمال الفكر يكمن في فعل الترجمة ذاته؟ فإذا كان الفكر حواراً فهو بالأولى حوار بين نصوص ولغات. وبهذا المعنى لا يمكن الفصل بين لحظتين: لحظة إعداد النصّ وترجمته، ثم لحظة استخدامه والتفكير فيه. وإذا كان معظم المفكّرين المعاصرين مترجمين، فليس ذلك سعياً منهم إلى توفير نصوص، وإنما وعياً منهم بأن ترجمة النصوص وإعادة ترجمتها من صميم الفكر. ولا أعني بذلك فحسب أن مفكرين أمثال هايدغر وفوكو وألتوسير ولاكان ودريدا وبوفري وريكور، أن كلّ واحد من هؤلاء يرتبط اسمه بمصنّف نقلَه إلى لغته، وإنما بأن كلاً منهم لم يفتأ يعدل ترجمات النصوص التي كان يستثمرها. إن كلاً من هؤلاء كان يعيد النّظر في ترجمة النصّ عندما كان يعيد قراءته. أو لنقل بالأحرى إنه كان يعيد قراءته بإعادة ترجمته. وها هنا تغدو الترجمة بحق استجابة «لنداء الفكر» ذاته.
وهذا الربط بين الترجمة وإعمال الفكر يطرح علينا السؤال الأساس: من سيوكل إليه السهر على الترجمة واختيار النّصوص، وتعيين «الكتب المرجعية» وتحديد «الأمهات»؟ فهل ينبغي لفعل الترجمة أن يوكَل إلى هيئة ويُسند إلى «مؤسسة»، أم أنه فعل شخصي يعود إلى ذوق المترجم وتفاعله مع النصّ وعشقه للغته؟

تحديد «الأمهات»
لا شك أن الجواب الذي يفرض نفسه علينا لأوّل وهلة هو أن مسألة الترجمة، شأنها شأن مسألة التأليف، تتوقف على ميول الأفراد وأذواقهم وتفاعلهم مع النصوص وعشقهم لها، وأن «بيوت الحكمة» اليوم هي أقسام الدراسة ومدرجات الجامعات، قبل أن تكون هيئاتٍ ومنظمات، إذ فيها يعمل المدرّسون بمعية طلابهم على تحديد «الأمهات» ونحت المفهومات وصقل اللغة وتحديثها. وعلى رغم ذلك، فلا يمكننا أن نستنتج من ذلك أن مأسسة الترجمة تظل دون جدوى. ذلك أن وجود هيئة منسّقة ترعى الترجمة وتنظمها وتتكفل بجوانبها المادية، من شأنه أن يجنبنا تكرار ترجمة نصوص سبق أن ترجمت، كما أنه يضمن لنا التنسيق بين المترجمين فيما بينهم، وبينهم و الأطراف الأخرى المشاركة في نشر النّصوص وتأليفها وتداولها. 
ولعل من شأن هذا التوفيق بين المؤسّسي والإبداعي أن يجرّنا إلى إعادة النظر في مفهوم النّصوص «الأمهات». فهل النصوص الأمّهات هي تلك التي عملت في مجال معيّن على تأسيس ذلك المجال وضبط إيقاع تطوّره؟ كأن نقول، في مجال الفلسفة على سبيل المثال، إن «الأمهات» هي النصوص المؤسِّسة كقصيدة بارمينيدس وجمهورية أفلاطون ومنطق أرسطو وتأملات ديكارت ونقد العقل لكانط وظاهريات هيجل إلى أن نصل إلى حفريات فوكو وهوامش دريدا.. هنا تتحدد «الأمهات» داخل المجال وحده. فماذا لو كانت «الأمّهات» تتعين أيضاً نسبة إلى الثقافة التي تنتمي إليها، كأن نقول، على سبيل المثال، إن رسالة الشافعي من أمّهات النصوص الإسلامية، ولكنها ليست كذلك بالنسبة للثقافة الأوروبية. على هذا النّحو ستتحدّد «الأمّهات» أيضاً نسبةً إلى الثقافة التي عملت فيها كنصّ مؤسّس. وبذلك سيتحدد مفهوم «الأمهات» كأصل جينيالوجي يتخذ معناه وأهميته بما سيترتّب عليه داخل ثقافة وفي إطار مجال بعينه. وهنا يغدو السؤال المتعلق بتحديد النّصوص-الأمهات مرتبطاً بما نتوخاه من المجال الذي نتحدث عنه في ثقافتنا، كأن نتساءل، في مجال الفلسفة، ما هي النصوص التي سنجعل منها أسساً لفكر عربي حديث؟.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©