السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

خلفان بن يدعوه.. الشاعر المتيّم

خلفان بن يدعوه.. الشاعر المتيّم
3 ابريل 2021 00:04

إبراهيم الملا

«أَدْعي عَلِيكُمْ مِنْ غَلاكُمْ               وِالاّ عَلَيّهْ ما تهونونْ
يِعْلِ الْعَدو يِدْفَعْ بَلاكُمْ                  ايْغِيبْ وَانْتُوا لي اتّمّونْ
مَا شُوفْ لي حَدٍّ شَراكُمْ                 غَالي مَعي وَآقولْ مَضْنونْ
امْريحْ وَاتَسَمَّعْ نِدَاكُمْ                    اوْ يَلِي زِقَرْتُوا قِلْت يَا عُونْ

في هذه القصيدة الأشهر للشاعر الكبير خلفان بن يدعوه المهيري، نستشفّ قدرته اللافتة على ابتكار «المفارقة الإيحائية» التي يستعين بها في جل ّقصائده، قاصداً جذب المتلقي لحظة اشتباكه بالكلام المنظوم، وبالتالي فهو يضع «عتبة الإغواء» المناسبة كي يدلف القارئ إلى فضاء حسّي يُكشف عن مغزاه العاطفي بتراتبية متصاعدة توشك أن تكون صارخة، ولكن شاعرنا المتيّم والعارف بأحوال العاشقين، يداري الصيغة المباشرة للقول بغلاف مرهف من اللّمح والإشارة، مكتفياً بإظهار لواعج القلب، دون تفريط في البوح، ودون استسلام مطلق لهدير العاطفة.
يبدأ الشاعر قصيدته بدعوة بدت مستغربة «أدعي عليكم»، وكأن العتب هنا صار موازياً للغضب، ولكنه سرعان ما يستدرك الشاعر فورته الداخلية بكلمة قاطعة أطفأت جموح التعبير، وهي كلمة: «من غلاكم»، فالقوة الدافعة هنا تقابلها قوة مضادة ومعاكسة لها، ولعلّ في لقب شاعرنا «ابن يدعوه» ما يقارب دعواته المستغربة هذه، والتي اكتشف المعاصرون له أن أغلبها دعوات مستجابة، وهناك شواهد كثيرة، كما يقول الرواة في سيرة «ابن يدعوه» تؤكّد تمتّعه بملكة عجيبة، حيث تتحول تمنيّاته المُسبقة إلى وقائع ملموسة وصادمة لاحقاً.
في البيت الثاني من القصيدة: «يِعْلِ الْعَدو يِدْفَعْ بَلاكُمْ/‏‏ ايْغِيبْ وَانْتُوا لي اتّمّونْ»، نرى أثر الاستدراك واضحاً، فالدعاء الوارد في مستهل القصيدة، يتجه نحو غاية محدّدة بعينها، متمثّلةً في الأعداء أو العذّال الراغبين في تفريقه عن المحبوب، وصنع الحواجز المانعة بينهما، متمنيّاً أن يختفي العاذل من المشهد، كي لا يكدّر صفو اللقاء، ولا يقحم نفسه في مكان لا يستوعب زحام المتربّصين والفضوليين.
ينسحب في المقاطع التالية للقصيدة حضور الآخر الغريب والمُستَهْجَن، ويبقى الفضاء الشعري ممتلئاً بالخلّ وخليله، فيما يشبه الثنائيات الملتحمة ببعضها، المنصرفة عن مشاغل الدنيا، وضجيج الخلق، والمكتفية بالألفة والحميمية وانصهار الحواسّ وذوبان الخواطر: «امريح واتسمّع نداكم /‏‏ او يلّي زقرتوا قلت يا عون»، ففي خلوة العشق هذه يصبح الصوت والصدى توأمين، ويتحول نداء المحبوب إلى استجابة لحظية ومباشرة، فلا موانع تقطع السمع، ولا حواجز تحجب النظر، ولا أسوار تزاحم فيض المشاعر، أو تناكف ذرى الأشجان.
يكمل خلفان بن يدعوه قصيدته، قائلاً:
«ما حيد لي قلبٍ سلاكم /‏‏ منكم بحبل الودّ مشطون
حيث إن رضايه من رضاكم /‏‏ وايلي زعلتوا صرت مينون
مبخوت كان الله هداكم /‏‏ وأصير أنا ويّاكم على لون»

يسترسل شاعرنا هنا في وصفه الماتع للوحدة العاطفية الجامعة بينه وبين محبوبه، فهذا الوصل أشبه بالوثاق الرصين أو الحبل المتين، وأي انقطاع أو بتر فيه هو ضرب من عبث وجنون، يقول «ابن يدعوه»: إن رضاه مشروط برضا المحبوب، لأن الكتلة الصلبة والمتداخلة من اللهفة واللوعة والحنين، تصبح وقت اللقاء ماءً عذباً وصافياً لا تخالطه الهواجس والظنون والمخاوف، إنها الهدأة المتخليّة عمّا دونها، بحيث تغيب الفواصل والاختلافات، ويصبح الاثنان واحداً، والهوى مُتحدّاً، والمطلب مشتركاً «وأصي ر أنا ويّاكم على لون»، وهذا الوصف المدهش لحالة الاندماج والذوبان المطلق في المحبوب، يرد في قصيدة أخرى للشاعر وفي البيت الأخير منها تحديداً، حيث يقول ابن يدعوه: «روحي و رُوحِكْ كِلْهِنْ رُوحْ /‏‏ ما بينهن فكٍّ أو تغلّيج»

منبع الكلمات
يذكر رواة سيرة الشاعر «ابن يدعوه» أنه تعلّق في فترة شبابه بفتاة فجّرت قريحته الشعرية، وساهمت في تحويل قصائده إلى منبع للكلمات المرهفة والتصاوير الرقيقة والتي جعلت اسمه في مقدمة شعراء الغزل البارعين في الوصف، والقادرين على نقل القصيدة من شكلها التقليدي والانطباعي إلى طراز فخم من البناء والسبك والتوليف ضمن مناخات قصيدة الغزل العذرية المزدانة برموزها ومضامينها الخفيّة، ويبدو أن قصائد ابن يدعوه في محبوبته قد أثمرت وتم قطافها عندما تزوج بمن يحب، وعندما وصل إلى من كان يرجو الاجتماع به، ولكن سعادة الشاعر لم تستمر طويلاً، حيث فقد ابنه البكر «عبدالله»، ثم جاءت الضربة القاصمة عندما توفيت زوجته بعد عام واحد من حدوث تلك المأساة العائلية الصادمة، فتكالبت عليه الأحزان، وحاصرته الهموم حتى فقد بصره، بينما ظلّت بصيرته أسيرة للذكريات البعيدة، بكل محطاتها وتحولاتها، فكان يستعيدها شعراً يطغى عليه الأسى والأنين والتراجيديا الموحشة شكلاً ومعنى، حتى توفي، رحمه الله، بعد إنجابه لثلاث بنات من زوجته الثانية، وهن: «مريم وعوشة وآمنة».

مريم يا الحبيبة
في لقاء خاص لـ «الاتحاد الأسبوعي» مع ابنة الشاعر «مريم بنت خلفان بن يدعوه»، أوضحت لنا أن والدها توفي وهي ما زالت في الخامسة من عمرها، وأنه قال فيها شعراً قبل رحيله بسنوات قليلة، يرد فيه:

«يا مريم يا الحبيبه /‏‏‏ لي ناسية م الحيبه
عليج حرز الباري /‏‏‏ عن لا تيج الخيبه
عيشجّ بهناوه /‏‏‏ لو صار أبوج شويبه
يا اللي غلاج ميوّد /‏‏‏ والنّاس ما تدري به»

وهي قصيدة عفوية قالها وهو يداعبها، ووصلت إليها لاحقاً من خلال والدتها، بعد أن كبرت واستوعبت ما تشير إليه القصيدة من معان ملؤها الدلال والحنان والعاطفة الأبوية الجارفة، والمعبّرة عن القيمة الغالية للبنت في نظر والدها، وكيف أنه حريص على أمنها وسلامتها، وأنه يداري في أعماقه حبه الكبير لها، والذي لا يعرف الناس مدى حجمه وامتداده في قلبه.
كما سردت لنا «مريم بنت يدعوه»، حكاية قصيدة قالها والدها أثناء سفره مع الشيخ سعيد بن مكتوم إلى الساحل المقابل للخليج، حيث كان والدها يستمع لتغاريد الطيور، مستقبلاً النسائم القادمة من البحر، متذكّراً من خلالها صور منطقة الوصل بدبي، وموثّقاً لحنينه في أبيات جميلة تقول كلماتها:

«نسيم (الوصل) بلّغ لي سلاما /‏‏‏ على من في حشايه له مقاما
مقامٌ فيه محبوبي مقيما /‏‏‏ وكلّي ملكه حتى العظاما»
وقالت «مريم بنت يدعوه»: إن الشاعر «محمد بن زنيد» كانت لديه مخطوطات تضم قصائد وردوداً تخصّ والدها، ولكن بعد وفاة «ابن زنيد» قامت زوجته برمي المخطوطات الشعرية في البحر، اعتقاداً منها أن ما في هذه المخطوطات عبارة عن أحاديث وآيات قرآنية، وخوفاً من أن تدنّس أتلفتها في مياه الساحل، وأضافت أن تلف هذه المخطوطات يعد خسارة كبيرة، لأنها جرفت معها قصائد متنوعة وعديدة ومهمة من إرث والدها الإبداعي.
ومن قصائد «ابن يدعوه» المتداولة وذات الصدى الشعبي المسافر عبر الأجيال، قصيدة بعنوان: «نسناس المغيبي»، يقول فيها:

«إن هبّ نسناس المغيبي /‏‏‏ ورّا ابجاش (سعيد) ليهوب
م الويج وادعاني صويبي /‏‏‏ كن ابحشايه قرحة أيّوب
لو با يعالجها الطبيبي /‏‏‏ ما فاد فيها طبّ وطبوب
هيهات لي يرحٍ يطيبي /‏‏‏ الن حصل م الرّيج مشروب
يالعمّ حالي من يثيبي /‏‏‏ لو دون وصله غِلْجَتْ دروب
الطف بحالي يا حبيبي /‏‏‏ يا سيّدي يا ترف لينوب»

وفي قصيدة أخرى معروفة له، يصف ابن يدعوه حاله وهو على سفينة الغوص، وسط المخاطر والأهوال التي لا يلقي لها بالاً لأن حواسّه وأفكاره باتت ملكاً للمحبوب المقيم على الساحل، راجياً ألا تطول الرحلة كي يظفر سريعاً بمن سرق لبّه واستحوذ على فؤاده، وهي على العموم قصيدة تحلّل وتشرح الأوضاع النفسية والجسدية للغاصة والطواويش، بعيداً عن أهلهم وخلّانهم، أثناء المغامرة المهيبة في الأزرق المجهول والعميق والمليء بالمفاجآت غير المتوقّعة، حيث يقول في القصيدة:

«واحسرتي ضاق الفضا بي /‏‏‏ يوم ابعدوني عن حبيبي
في خنّ ساعي م لخشابي /‏‏‏ سلج ومجراه المغيبي
ما همّني غوصٍ ولا بي /‏‏‏ بردٍ ولا غزار الغبيبي
لي صاحبٍ وصله صوابي /‏‏‏ ما هو بمزراتٍ وعيبي
يختال في برد الثيابِ /‏‏‏ إن هبّ له شرتا الغريبي»

وهي قصيدة مشابهة لقصيدة قالها الشاعر الكبير بطي بن خليفة العميمي (ابن قماشة) وتكاد تكون مناخاتها الوصفية ملاصقة لها، حيث يقول ابن قماشة:

«شلّوا بنا من الدار في خن لَوْشار /‏‏‏ غربي وناضحها غدا من عواليه
ضاقت بي الأفكار من ضيجة الدار /‏‏‏ لا حُّول من ليلٍ طويلٍ أجاسيه
همّي ضويل وبايت أجاسي الليل /‏‏‏ من صاحبٍ تطري عليّه طواريه
الطير طار ولا قِبَلْ منك لَشْوار /‏‏‏ واليوم ما له بندر يلتيي فيه
عا الشراع يحوم ويدوّر المقسوم /‏‏‏ ما ظنّتي يوصل لو باتوصّيه»

دواوين
صدرت للشاعر خلفان بن يدعوه عدّة دواوين، منها ما هو قديم حيث تمت طباعتها في الهند فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي مثل ديوان: «من الأعماق»، وكذلك صدر له ديوان يعد من أوائل ما جمع للشاعر هو ديوان: «نسيم الوصل»، بينما أتت الدواوين التالية منقحة ومزيدة مثل ديوان: «نسيم الصبا» الذي ضم قصائد للشاعر ولابنته «آمنة بنت خلفان بن يدعوه»، بينما يعد «ديوان خلفان بن يدعوه» من الإصدارات المهمة التي قرأت ملامح التجربة الشعرية المتفرّدة لابن يدعوه، وحلّلت قصائده وقدمت نبذة وافية عن سيرته الحياتية والإبداعية، والديوان من إعداد وتحقيق الباحث والشاعر سلطان العميمي.

قراءة دقيقة لتفاصيل الحياة
ولد الشاعر «خلفان بن عبدالله بن يدعوه المهيري» في دبي نهايات القرن التاسع عشر، وتوفي العام 1956م، وكان لحسّه المرهف وقراءته الدقيقة لتفاصيل الحياة من حوله أثر قوي في ميله للشعر الغزلي وبقاء هذا الشعر حارّاً ومتوهجاً في ذاكرة الأجيال المتلاحقة، والتي تناقلت قصائده شفهياً منذ عقود، بينما كانت المخطوطات الموثقة لقصائد ابن يدعوه قليلة ونادرة، كما كان للأغاني والألحان التي وظفت قصائده دورها المهم في بقاء الميراث الإبداعي لشاعر بقيمة وقامة خلفان يدعوه، فمن المطربين الذين شدوا بكلماته: «علي بن روغة، ومروان الخطيب، وخالد محمد، وغيرهم من الذين غرفوا من معين قصائده العذبة المترجمة لتطلعات الذات ولعذاباتها أيضاً، حيث يلاحظ المتتبّع لهذه القصائد غلبة عناصر الأسى والفراق الشجن عليها، مثل قصيدة: «نسناس المغيبي»، وقصيدة: «أدعي عليكم» وقصيدة: «واحسرتي ضاق الفضا بي» وغيرها.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©