الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ثقافة التملك وهوس الاستهلاك

ثقافة التملك وهوس الاستهلاك
1 ابريل 2021 01:20

د. ميّاسة سلطان السويدي

ما غاية كل كدح وسعي في هذا العالم؟ ما هدف الجشع والطموح، وطلب الثروة والسلطة، والتفوق؟ أهو توفير ضرورات الطبيعة؟ هكذا تساءل آدم سميث الفيلسوف الأخلاقي وعالم الاقتصاد الإسكتلندي، الذي يعد مؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية»، حيث كتب كثيراً فيما يتعلق بسلوكنا البشري ووعينا الذاتي وأسلوب تعاملنا مع الآخرين، حيث يكمن الفارق ما بين المفاهيم المختلفة في إجابة السؤال التالي: ما هي الحاجات التي يشترط توافرها لتحقق لنا السعادة؟ وهذا ما يأخذنا إلى تساؤل آخر أهم عن معنى الحياة وطبيعة الحاجات الإنسانية المختلفة؟
يتفق معظم المفكرين على مفهوم السعادة، فيصرحون بأننا نكون سعداء بالقدر الذي تتحقق فيه رغباتنا، أو بتعبير آخر نحن سعداء إذا حصلنا على ما نريد، فالسعادة ليست بديلاً لمواجهة مصاعب الحياة وعيش حياة خالية من أي تعقيدات، فمن الطبيعي أن تكون في الحياة مشاكل ينبغي حلها، وتحديات ينبغي مواجهاتها. والسعادة ليست حالة ممتدة ومستمرة، فقد تكون لحظة عابرة نشعر بها حينما نتجاوز المحن والحظ السيئ، أو ننجز عملاً متأخراً أو نلاعب طفلاً، وقد تكون ببساطة مشاعر سعادة تنتابنا حين نقلّب صفحات كتاب، ونشرب كوب قهوة في مكان جميل.

الموضة وانتهاء الصلاحية
إن حضارتنا تقدم العديد من المسكّنات التي تساعد الناس على ألا يكونوا واعين شعورياً بالغربة، فهي تشتّت انتباههم وتساهم في عدم إدراكهم لأشد رغباتهم الإنسانية الأساسية، أو كما يصف «إريك فروم» الإنسان الاستهلاكي بأنه رضيع أبدي لا يكف عن الصياح في طلب زجاجة الرضاعة! لأن حضارة الاستهلاك تصنع حاجة وهمية ملحة لإشباع رغبات أخرى تقدمها صناعة التسلية والاستهلاك! ومثال على ذلك الموضة، تلك الكلمة التي تطلق على مجموعة من الصفات المحبوبة المفضلة في زمن معين يتم التركيز عليها في الإعلام والمجتمعات، وتتمحور حول فكرة أن كل شيء نقتنيه له وقت محدد وبعدها ينبغي أن نتجاوزه ونستبدله بآخر أحدث منه! ومن الأمثلة على ذلك وجود الكثير من الملابس الجيدة التي قد تكون مناسبة للارتداء، ولكن لأنها صارت موضة قديمة أصبحنا نشعر بالخجل من ارتدائها ثانية! وهذا يشكل ضغطاً نفسياً لأنه قد يجبرنا دون أن نعي على تماثل سلوكنا مع السلوك الجمعي للآخرين.. وهذا ما كتب عنه «آلان دو بوتوان» بتفصيل في كتابه «السعي إلى المكانة». وبالإضافة إلى كل ذلك، يتم أيضاً الترويج للمنتجات غالية الثمن في الإعلانات وربطها بموضة العصر، بهدف دعم الاستهلاك المصطنع والاهتمام بالربح الأقصى دون الالتفات إلى القيم والمبادئ، ودون أي اعتبار أيضاً للبيئة وتكوين المجتمعات ولا حتى للكائنات البشرية المستهلكة التي تضيع وسط كل ذلك.

الوفرة والاستهلاك
تقوم سعادة الإنسان الحديث على شهوة التطلع واقتناء كل ما يستطيع شراءه، والاستهلاك هو أحد أشكال التملك في مجتمعات الوفرة الصناعية المعاصرة، وقد صرح «جون كينيث جالبرايث»، الذي عمل مستشاراً اقتصادياً لعدة رؤساء أميركيين، في كتابه «مجتمع الوفرة» بأن قانون العرض والطلب لم يعد ساري المفعول في الوقت الحاضر، فالأسواق لم تعد ناتجة عن المواجهة بين العرض والطلب، وإنما أصبحت تتأثر بمفاهيم دراسة السوق والتسويق، حيث يقوم المتخصصون في مجال السوق بتحليل بيانات بيع منتوج ما، وعلى أساسها يتم تحديد الحاجة التي يجب خلقها، وبمعنى آخر، أنه عن طريق التسويق تصبح هناك حاجة مصطنعة تجعل المستهلكين في حالة استعداد دائم للشراء والاستهلاك وذلك بالتأثير على الميول النفسية، فيصبح المستهلكون في حالة استعداد دائم لشراء أي منتوج تم تسويقه بصخب، استجابةً لحاجة مصطنعة وغير حقيقية.

«حضارة الجادجيت»
ولا نستطيع أن ننكر أن حضارتنا قائمة على شهوة الشراء وإقناع الناس بأن السعادة تتحقق في شراء الأشياء، حيث يخفف الاستهلاك مشاعر القلق التي تنتاب الإنسان المعاصر الذي أصبح فريسة سهلة لقواعد الاستهلاك المنتشرة، ولأن الاستهلاك يفقد هذا التأثير الإشباعي بعد اقتناء الأشياء، يتم التأثير أيضاً على الميول النفسية للمستهلك وإخضاعه لاختيارات يقدمها له المسوقون عن طريق الإعلانات وبرامج التواصل الاجتماعي والمؤثرين المشاهير، وهذا ما يندد به «جالبرايث» في حقيقة الأمر، فهو «حضارة الجادجيت» Gadget civilisation وهي حضارة تتميز بإنتاجها أعداداً كبيرة من المنتجات لا تستعمل في تلبية حاجات حقيقية، وإنما بسبب تسويق وسائل الإعلام المختلفة ودعمها لهذا الاختيار، تتم تلبية حاجات مصطنعة تم خلقها بقصد وبدراسات إحصائية للتأثير على الوعي الجمعي.

الاغتراب والتسليع
يمثل تحليل جالبرايث هجوماً على اقتصاد الإنتاج من أجل الإنتاج، في مقابل اقتصاد يهدف إلى توفير الحاجات الأساسية للإنسان لضمان سعادته، ويتم التأكيد على الاستهلاك لا الحفاظ على المقتنيات، فأصبحت الأشياء تقتنى، ثم يتم التخلص منها لاقتناء غيرها.. وتكمن المشكلة الإنسانية للرأسمالية الحديثة في أنها تجعل أذواق الناس متشابهة وفق معيار محدد، ويتم التأثير عليهم وتوجيههم بسهولة ومن دون أي قوة تذكر، فيكونون مع التيار، يريدون أن ينفقوا أكثر فأكثر، وعليهم الاستمرار في الإنتاج والاستهلاك لرغبتهم الشديدة في التلاؤم مع مجتمعهم المحيط، وهذا حتماً يتسبب في اغتراب الإنسان عن نفسه. 

المحنة السيكولوجية
إن الاكتئاب هو المحنة السيكولوجية المميزة للمجتمع الاستهلاكي، فنحن، في هذه الحالة، نعاني تخمة الممكنات والخيارات، ولكن قد يتملكنا في الوقت ذاته رعب من عدم قدرتنا على الوفاء بتلك الخيارات المتاحة، الأمر الذي يقود بالتأكيد إلى الاكتئاب والدخول في دوامة لا تنتهي، فنحن قد نكون سعداء بالقليل إذا كان هذا القليل هو ما نتوقع، وقد نكون تعِسين بالكثير حين نفقد الرضا والقناعة ونشعر بالرغبة في امتلاك كل شيء، وتلك هي مقارنة جان جاك روسو لمستويات السعادة النسبية لدى الإنسان البدائي والإنسان الحديث، حين يتطلع الإنسان إلى ما عند الأقران من حوله ويمتنع عن تقدير ما بين يديه، فلا يرضى إلا حين يمتلك كما يملك الآخرون في محيطه أو أكثر.. ما يسبب الصراعات والحسد وعدم الشعور بالأمان وتبدد الطاقة بشكل عام. 
والمخرج من كل ذلك يكمن في الوعي والتحرر من التعلق بالماديات التي قد تكون عائقاً للسعادة، لأن البحث عن السعادة من خلال الاستهلاك لا يؤدي إلى الرضا أبداً، فمن الضروري الوقوف بحزم أمام مظاهر الإنفاق والتفاخر بالماديات وتغيير الأنماط الاستهلاكية والتحكم في السلوك البشري، مع تنمية قيم الإنتاج والتوجه إلى الاستهلاك الرشيد، لنكون أكثر خفة وتحرراً من الارتباط بالأشياء التي قد تشعرنا بالفوضى والثقل، وباختصار: نحتاج لممارسة البساطة والتركيز على ما يهم حقاً.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©