الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«شبير».. شاعر الاغتراب

«شبير».. شاعر الاغتراب
20 مارس 2021 00:09

إبراهيم الملا

«أنا بتماثيل الشعر خاطري دار
مثل السفن لي دايراتٍ ولومها
أقصد وأردّ الشور من صوب لَشْعار
وأخفيه يوم الشمس غاية سلومها»

نحن أمام شاعر مختلف، ذي منتج إبداعي مغاير، سواء فيما يتعلق بالبنية الشعرية المترجمة لفضائه التعبيري، أم ما يتعلق بطبيعة حياته، وخصوصية عيشه، وغرابة مسلكه، وفرادة طقوسه، إنه الشاعر محمد بن راشد بن سلطان الرزي الشامسي الملقب بـ «شبير»، وهو تصغير كلمة «شبر» - القياس المعروف باليد- فصار هذا اللقب لصيقاً به لقصر قامته، إلّا أنه عوّض هذا القصور الجسدي بشعر سامق، يجاوز الكلام المألوف والقول العاديّ، ملامساً بشعره المدارك العصيّة، والأفهام العليّة، والنفوس الجليّة. يزهو شبير بقدرته على نظم الأشعار بطريقة تسمو بها نحو المقام العالي والنموذج الراقي في الوصف والتمثيل والذهاب بالمغامرة الشعرية إلى أقصاها، مشبّهاً نفسه بالسفينة الخائضة غمار البحر دون تردّد أو وَجَل، مؤكداً قدرته على مجابهة التحديات الشعرية أمام الجميع وفي وضح النهار، لأنه وبعد غياب الشمس يصبح البهتان هو سيد الموقف، وتختلط المعايير على الخلق، ولذلك لا يهاب شاعرنا مكاشفة المترقبين لنوعية شعره والباحثين له عن زلّة.
وفي قصيدة أخرى لشبير في ذات السياق يقول:
«الشعر في قلبي خواطيف سنيار
شروات سفّارٍ يْجاذب خطوفها
والقول عندي له معاني وعْتبار
قولٍ معرّب ما تقصر حروفه
ألذّ عن درّ المصاغير الأبكار
يسوى ثمن «حاسر» وعطرٍ تدوفه
وأنا على الاشعار حرٍّ ع لوكار
يطلع على روس العوادي بشوفه»

ظروف استثنائية
لا يأتي اعتداد شاعرنا بموهبته من فراغ، فالظروف الاستثنائية التي عاشها وهو محاط بالعوز والفقر والعزلة والوحشة، نحتت في أعماقه رغبة متأججة لتعويض النقص الخارجيّ بكمالٍ داخليّ، ولا غرابة هنا أن ينحت شعره نحتا، ويصقله بالتجارب المديدة، والحكمة السديدة، والنظرة العارفة، والمعاني الوارفة، لذلك يشبه شعر الآخرين بخطوط السفن المترافقة «السنيار» في مسارها المتمهل والبطيء، ويقارنها بشعره السريع والخاطف والمتجاوز للشعر السائد، فهو نسيج وحده في هذا المجال، ولا ينافسه في السبك والجزالة والبلاغة أحد، مضيفاً أن شعره - الذي يسميه: «القول» - متخم بالمعاني والعِبَرْ، وهو قول معرّب لا اعوجاج فيه ولا زلل، لا تقصر حروفه عن الوصف وإيصال المراد والمغزى، وأن شعره ألذّ وأصفى من حليب النوق الصغيرة، وهو يساوي ثمن «الحاسر»، أي الفتاة الجميلة المهيأة للزواج والمحاطة برائحة الندّ والعطور الغالية، ويعزّز شاعرنا مناخ المباهاة بنتاجه الخاص في توليفه، والحافل بتصاويره، بتشبيه نفسه بالصقر صاحب النظرة البانورامية، فهو مُطّلِعٌ على المصائد والأوكار، ومُتفوّقٌ على خصومه ومنافسيه بهذه الرؤية الشاملة والمحيطة بتحوّلات الدهر وتقلّبات الحياة.

وحيد وسط البراري 
ولد الشاعر محمد بن راشد الرزّي في منطقة «لقْرَن» ببادية أم القيوين، في العام 1885م وعاش معظم حياته فقيراً ومعدماً ووحيداً وسط البراري الشاسعة والكثبان العالية والسهوب الشاسعة، ولم يرافقه في فترات عزلته الطويلة هذه، سوى الجمل الذي ورثه عن أهله، وظل ملازماً له، ومخففّاً عن وحشته، ولذلك دارت الكثير من قصائده حول هذا الجمل الأثير والمحبّب والقريب إلى قلبه، خصوصاً بعد استخدامه للتنقل بين مختلف مناطق الإمارات الجنوبية، مثل «المدام»، و«فلي»، و«الذيد»، ومناطق رأس الخيمة، وصولاً إلى مناطق العين والمناطق العمانية القريبة، ورغم اندثار القصائد التي قالها في هذا الجمل بعد رحيل الرواة الشفهيين لها، وعدم وجود مخطوطات توثّقها، إلّا أن القصة المؤثرة والصادمة التي انتهت بها علاقتها ظلت هي القصة الحاضرة دوماً لدى أقرباء الشاعر وأصدقائه المتأخرين، حيث يرد في هذه الحكاية الموجعة أن الشاعر محمد الرزي «شبير» أصيب أواخر حياته بمرض خبيث وعضال يطلق عليه الناس باللهجة المحلية مرض «اللصّه»، وعندما ركب جمله من منطقة «مدوك» الحدودية، قاصداً قرية «شناص» شمال منطقة الباطنة بسلطنة عمان، أغمي عليه في الطريق، ولكن الجمل واصل دربه إلى الجهة المحددة، فرأى أقرباء الشاعر وأهالي «شناص» الشاعر مقبلاً نحوهم من بعيد، وهو مستلق على ظهر الجمل، فأنزلوه وأجلسوه تحت شجرة وعالجوه بالأدوية الشعبية وبالكيّ، حيث كان يعاني من ألم مبرح في بطنه، وبعد خمسة عشر يوماً فارق الحياة، بعيداً عن موطنه، وثاوياً في أرض غريبة، وكان ذلك في العام 1958م، حيث أتت النهاية وكأنها تكتب السطر الأخير لمدوّنة الشاعر وروايته المرّة، الممزوجة باغترابه الذاتي، واقترانه الشائك بالمأساة جوهراً ومظهراً، وبدءاً وختاماً، غير أن شعره الجامح والفائض بعنفوانه ظل هو السلوى والعزاء لصنوف الكرب والألم ونزيف البهجة في سيرة حياته العارمة والضارية التي أشرق فيها الشعر وأضاء فيها القصيد، رغم غروب الحال وانطفاء المآل.

نبض الاغتراب
يقول شبير في إحدى قصائده الناقلة لنبض اغترابه وعزلته:
«يا ويل يا من لتّهه الوقت يا ويل
لا ياب نسلٍ ولا فسلٍ يستغلّه
ويا كم ليلٍ مرّ قد يركته ليل
واتقزّرت لوقوت من دون حلّه»

وعلى المنحى ذاته يقول:
«ما ريت من قسى شراتي بلا جار
هاي السنة يا هي علينا عضيلة
ما يلام لي عنده مداعيل صغار
باتت على عيونه همومٍ ثقيلة»

يحصي الشاعر هنا خساراته إثر تداعيات مرة عاينها وخبرها بسبب شظف العيش والبحث عن الرزق ومماطلة الوقت حتى وصوله لسن الستين، وهو لم يتزوج بعد ولم يكوّن أسرة تعينه وتلمّه وتداري عنه الوحشة والشتات، ولذلك نرى في قصائده المعبّرة عن «الأنا الطاغية» ما يبرّر لها من مسوغات وأسباب، ذلك أنه شاعر اختار النزوح الوجوديّ، والتمرّد المجتمعيّ، والميل عن المنظومة السائدة، فيما يشبه تمرّد الشعراء المنشقين عن الخط العام والأعراف المهيمنة في زمن الجاهلية، أمثال: عروة بن الورد، والشنفرى، وتأبّط شرّاً، والسليك بن السلكة، وأبي خراش الهذلي وغيرهم، ذلك أن الرواسب العميقة في شعر محمد بن راشد الرزّي تتقاطع مع الميراث اللامع لشعر «الصعاليك» القديم والمتجذّر في أرض الفرادة الإبداعية، والاستقلالية الروحية عن العوامل المعيقة لانطلاق الشاعر في عوالم القصيدة، وتحليقه الحرّ في فضائها الواسع، لذلك فإن وصف الصعاليك هنا فيه من المدح ما يغلب على الذم، وفيه من الثناء ما يغلب على التقريع.
ونرى في قصيدة لعروة بن الورد ما يقابلها من معان وأصداء في قصيدة لشاعرنا محمد الرزّي «شبير»، حيث يقول عروة:
«وإنّي لأثوي الجوع حتى يملّني /‏‏ فيذهب لم يدنّس ثيابي ولا جُرْمي
وأغتبق الماء القراح فأنتهي /‏‏ إذا الزاد أمسى للمزلّج ذا طعمِ»

بينما يقول شبير:
«ما ينشرب ماي الخريجه /‏‏ والحلو بيبانه مغاليج
والقلب ما وقّف خفيجه /‏‏ شروات شرع في زواريج
لنسان ما يجافي صديجه /‏‏ في حزّة المقصاة والضيج»

حيث يعبّر الشاعران هنا عن عدم رضوخهما للمطالب الجسدية - الجوع عند عروة بن الورد، والعطش عند شبير - إذا كان هذا الرضوخ معيباً في حق أخلاقهما ومبادئهما القائمة على نصرة المظلوم ومساندة الصديق عند حلول المصائب والمحن، يقول عروة إنه قادر على دفن جوعه في سبيل التخلص من الدنس، وعدم مشاركة الطعام مع الشخص الأرعن والدعيّ، بينما يرى شبير أن شرب الماء المالح «ماي الخريجة» أهون من مجافاة الأصدقاء والتخلي عنهم وقت الشدائد.

الأستاذ
يرد في سيرة الشاعر محمد بن راشد الرزّي «شبير»، والتي يذكرها الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي في كتابه: «أعلام الشعر الشعبي في دولة الإمارات»، أن شاعرنا تنقل في صباه مع أهله وجيرانه بين مختلف الآبار والموارد المائية في المنطقة الواقعة بين أم القيوين ورأس الخيمة، مثل: «مشروك»، و«اليمحه»، و«أم ثعوب»، و«الراعفة»، و«مهذّب»، و«كابر»، وغيرها من الموارد والمراعي الخصبة في المناطق الشمالية، وأن شاعرنا عمل في شبابه ضمن حاشية حاكم أم القيوين الأسبق أحمد بن راشد المعلا، وكان ذلك في الثلاثينيات من القرن الماضي، انضم بعدها لمعاوني الشيخ سلطان بن سالم القاسمي حاكم رأس الخيمة الأسبق، وكان وقتها الشاعر شبير عازباً، وقارب الستين حينها، وبعد أن ترك الشيخ سلطان حكم الإمارة اشترى شاعرنا جملاً ليستخدمه في تنقلاته وجولاته على مختلف مناطق الإمارات، ولأنه صار متقدما في العمر لم تطل زيجته، وطلق زوجته التي لم ينجب منها.

الأوصاف الجميلة
يذكر الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي أن معظم قصائد محمد بن راشد الرزي أو «شبير» ضاعت وجرفها النسيان واختفت بعد موت رواتها من كبار السن، وأن ما تبقى من ميراثه الإبداعي هو عشرون قصيدة فقط، ورغم قلتها إلّا أنها خلدت اسمه، وحفظت ألقه الشعري في ذاكرة الناس.
ويصف المزروعي الشاعر «شبير» بأنه من كبار الشعراء الشعبيين في الإمارات، ويعدّ أستاذاً في فن الشعر من نوع المناظيم أو المقالات، وأغلب قصائده من هذا النوع، وهي قصائد تتخللها الحكم والنصائح والأوصاف الجميلة، كما قال في فن التغاريد، ونظم في جميع الأساليب وبحور الشعر الشعبي، ونبغ فيها جميعاً، موضحاً أن قصائده القليلة التي وصلت إلينا تكشف عن موهبة فذة ناطح بها كبار الشعراء في عصره أمثال سالم بن علي العويس، والشاعر الشيخ سلطان بن سالم القاسمي وغيرهما، مضيفاً أن قصائده تتميز بفصاحة اللسان، وقوة المعنى، وإصابة الهدف، وقال المزروعي: «لن أتردد أن أدرج الشاعر «شبير» ضمن شعراء الفترة الأولى من المرحلة الحديثة بتميّز، فهو من شعراء هذه المرحلة التي أطلقت عليها اسم (مرحلة الانفتاح)».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©