الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مئوية ثروت عكاشة.. جنرال ‬بدرجة ‬مفكر

مئوية ثروت عكاشة.. جنرال ‬بدرجة ‬مفكر
18 مارس 2021 00:56

أميل أمين

لماذا‎ ‬ينكر ‬البعض ‬في ‬عالمنا ‬العربي ‬على ‬بعض ‬القيادات ‬العسكرية ‬افتتانهم ‬بالثقافة ‬والفنون‬، و‬العلوم ‬والآداب؟
يحتاج‎ ‬هذا ‬التساؤل ‬إلى ‬إجابات ‬من ‬علماء ‬الاجتماع‬، ‬وربما ‬علماء ‬الطب ‬النفسي‬، و‬لكن ‬يبقى ‬من ‬المؤكد ‬أن ‬هناك شخصيات ‬بعينها، ‬عبر ‬التاريخ ‬العربي ‬المعاصر، ‬أثبتت أنه ‬يمكن ‬الجمع ‬بين ‬الحياة ‬العسكرية ‬والمشاركة والمساهمة بفاعلية في ‬الحياة ‬الفكرية، ‬والجمع ‬بينهما ‬من ‬غير ‬أي ‬تضاد ‬ظاهر ‬أو ‬خفي‬.
و‬هذه ‬الأيام ‬تمر الذكرى ‬المئوية ‬لمولد ‬الدكتور ‬ثروت ‬عكاشة، ‬وزير ‬الثقافة ‬المصري الأسبق، ‬وضابط ‬سلاح ‬الفرسان‬، ‬وعضو ‬تنظيم ‬الضباط ‬الأحرار‬، ‬الذين ‬قادوا ‬ثورة ‬مصر ‬عام ‬1952، والفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الفنون والدراسات النقدية 2007.
وتضيق‎ ‬المساحة في هذا الموضوع ‬عن ‬سرد ‬وعرض ‬الحياة ‬الخاصة ‬لعكاشة ‬منذ ‬مولده ‬عام ‬1921‬، ‬إلى ‬أن ‬غادر ‬دنيانا ‬في ‬2012، ‬وما ‬يهمنا ‬هنا ‬هو ‬إلقاء ‬الضوء ‬على ‬هذا ‬الفارس ‬المثقف، ‬الذي ‬كان ‬من ‬نصيبه ‬بعد ‬نجاح ‬الثورة‬، ‬العمل ‬على ‬إعادة ‬صياغة ‬الوجدان ‬المصري‬، ‬كما ‬حدد ‬البكباشي ‬جمال ‬عبدالناصر ‬تكليفه ‬في ‬الأسابيع ‬الأولى ‬من ‬الثورة، ‬معتبراً ‬أن ‬مهمة ‬بناء ‬المصانع ‬أسهل ‬كثيراً ‬جداً ‬من ‬بناء ‬الإنسان‬.
وحين‎ ‬قامت ‬الثورة ‬في ‬يوليو ‬من ‬عام ‬1952، ‬كانت ‬الحالة ‬الثقافية ‬في ‬مصر ‬قد ‬بلغت ‬حداً ‬مترديا‬ً، ‬و‬اعتبر ‬الضباط ‬الأحرار ‬أن ‬مهمة ‬صياغة ‬رؤى ‬ثقافية ‬لمصر ‬بعد ‬الثورة‬، تعتبر ‬‬من ‬مهام ‬الأمن ‬القومي.
وفي‎ ‬عام ‬1958 ‬استدعى ‬جمال ‬عبد الناصر، ‬د. ثروت ‬عكاشة ‬، ‬من ‬روما ‬وقد ‬كان ‬يشغل ‬منصب ‬سفير ‬مصر ‬هناك‬، ‬وفي ‬اللقاء ‬الذي ‬جمعه ‬به ‬بعد ‬عودته ‬السريعة ‬من ‬العاصمة ‬الإيطالية‬، ‬أخبره ‬ناصر ‬بأنه ‬لم ‬يستقدمه ‬من ‬عاصمة ‬النهضة ‬الأوروبية ‬ليتولى ‬وظيفة ‬شرفية‬، ‬بل ‬قال ‬له ‬:«‬اعرف ‬أنك ‬ستحمل ‬عبئاً ‬لا ‬يجرؤ ‬على ‬التصدي ‬لحمله ‬إلا ‬قلة ‬من ‬الذين ‬حملوا ‬في ‬قلوبهم ‬وهج ‬الثورة ‬حتى ‬أشعلوها‬، ‬وعلينا ‬الآن ‬أن ‬نحرث ‬تربتها ‬ونقلبها ‬ونسويها ‬ونغرس ‬فيها ‬بذوراً ‬جديدة‬، ‬لتنبت ‬لنا ‬أجيالاً ‬تؤمن ‬بحقها ‬في ‬الحياة ‬والحرية ‬والمساواة»‬.
وشغل‎ ‬عكاشة، ‬الذي ‬حصل ‬على ‬درجة ‬الدكتوراه ‬في ‬الآداب ‬من ‬جامعة ‬السوربون ‬عام ‬1960‬، ‬منصب ‬وزير ‬الثقافة ‬والإرشاد ‬القومي‬، ‬في ‬الفترة ‬ما ‬بين ‬1958 ‬و‬1962‬.

  • مع جمال عبد الناصر (أرشيفية)
    مع جمال عبد الناصر (أرشيفية)

‬الفارس ‬المثقف
وخلال‎ ‬تلك ‬السنوات ‬الأربع، ‬نجح ‬الفارس ‬المثقف ‬في ‬تغيير ‬المشهد ‬الثقافي ‬المصري ‬بصورة ‬حقيقية ‬لا ‬دعائية، ‬من ‬خلال ‬مشروع ‬ثقافي ‬كبير‬، ‬متعدد ‬المشارب ‬والتوجهات‬، ‬فقد ‬أعاد ‬هيكلة ‬وبلورة ‬الأطر ‬للمؤسسات ‬الثقافية ‬المصرية، ‬تلك ‬التي ‬شكلت ‬البنية ‬التحتية ‬‬الفكرية لمصر ‬الحديثة‬، ‬والتي ‬لا ‬تزال ‬مصر ‬تمضي ‬في ‬دربها‬، ‬وفي ‬المقدمة ‬منها ‬المجلس ‬الأعلى ‬للثقافة، ‬والهيئة ‬العامة ‬للكتاب‬، ‬وأكاديمية ‬الفنون، ‬ودار ‬الكتب ‬والوثائق ‬القومية، ‬وفرق ‬دار ‬الأوبرا، ‬والسيرك ‬القومي، ‬وبعض ‬المسارح ‬الشهيرة‬.
ويمكن‎ ‬القطع ‬بأن ‬مصر ‬كانت ‬تمضي ‬في ‬الفترة ‬من ‬1952 ‬إلى ‬1962 ‬في ‬طريق ‬بناء ‬مصرَين‬، ‬لا ‬مصر ‬واحدة‬، مصر ‬على ‬صعيد ‬الحجر‬، ‬وأخرى ‬تهتم ‬بالبشر‬، ‬والتعبير ‬يحمل ‬ولاشك ‬مجازاً ‬واضحاً‬. وكان‎ ‬عبدالناصر ‬مهموماً ‬بل ‬محموماً ‬ببناء ‬البنية ‬التحتية ‬الصناعية ‬للبلاد‬، ‬إلى جانب ‬إنشاء ‬القطاع ‬العام‬، ‬وتوفير ‬درجة ‬من ‬التكافل ‬الاجتماعي ‬لجميع ‬المصريين، ‬فيما ‬حمل ‬ثروت ‬عكاشة ‬عبء ‬النهضة ‬الثقافية‬، ‬التي ‬أوصلها ‬للمدن ‬والقرى ‬من ‬خلال ‬تجربة ‬الثقافة ‬الجماهيرية‬، ‬حيث ‬أنشأ ‬في ‬كل ‬مدينة ‬بيتاً ‬للثقافة‬. ‬وفي ‬زمانه، ‬راجت ‬فكرة ‬المكتبات ‬المنتشرة ‬في ‬المدن‬، ‬ووجد ‬الكتاب ‬والمؤلفون ‬الدعم ‬اللازم ‬لنشر ‬مؤلفاتهم‬، ‬وعليه ‬فقد ‬خرجت ‬الثقافة ‬المصرية ‬من ‬ضيق ‬التوجه ‬المركزي ‬في ‬العاصمة ‬والمحافظات ‬الكبرى‬، ‬إلي ‬براح ‬الريف ‬والقرى ‬والنجوع‬، ‬لتصبح ‬قضية ‬الثقافة ‬بحق ‬قضية ‬وطنية ‬عامة ‬تشمل ‬الشعب ‬بأسره‬.

إنقاذ ‬معابد ‬النوبة
‬وثمة تساؤل يجدر ‬طرحه، في هذا المقام، هو‬: ‬هل ‬هناك ‬مشروع ‬بعينه ‬س‬يذكره ‬التاريخ ‬على ‬مدى ‬الأجيال ‬وقد ارتبط ‬ارتباطاً ‬وثيقاً ‬باسم ‬ثروت ‬عكاشة‬؟
‎ ‬والجواب ‬يحتاج ‬إلى ‬قراءة ‬قائمة ‬بذاتها‬، و‬لكن ‬باختصار ‬غير ‬مخل‬، ‬يمكننا ‬الإشارة ‬إلى ‬مشروع ‬إنقاذ ‬معابد ‬النوبة‬، ‬وتبلغ ‬نحو ‬16 ‬معبدا‬ً، ‬كان ‬مصيرها ‬الغرق ‬بعد ‬إنشاء ‬السد ‬العالي.
وعن هذا يقول‎ ‬الدكتور ‬ثروت ‬عكاشة ‬في ‬مذكراته: «‬وفي ‬الحق ‬إن ‬المشكلة ‬الجوهرية ‬التي ‬استولت ‬على ‬أغلب ‬جهودي ‬واستأثرت ‬بمعظم ‬اهتمامي ‬في ‬مجال ‬الآثار ‬كانت ‬مشكلة ‬إنقاذ ‬معابد ‬النوبة ‬نظراً ‬للمصير ‬المأساوي ‬الذي ‬كانت ‬ستتعرض ‬له ‬معابد ‬هذه ‬المنطقة، ‬فقد ‬تهددت ‬بطغيان ‬المياه ‬عليها ‬وغمرها ‬إلى ‬آخرها ‬في ‬وقت ‬مرهون ‬أجله ‬بمراحل ‬تشييد ‬السد ‬العالي. ‬ولا ‬أنكر ‬أن ‬انصرافي ‬المطلق ‬نحو ‬إيجاد ‬حل ‬لهذه ‬المشكلة ‬وجعلها ‬تتمتع ‬أكثر ‬من ‬غيرها ‬بالأسبقية، ‬فحين ‬يتحمل ‬المرء ‬مسؤولية ‬ما، ‬ويحدد ‬الهدف ‬الذي ‬ينبغي ‬الوصول ‬له ‬عليه ‬أن ‬يتخذ ‬القرار ‬بتحديد ‬الأولويات ‬في ‬مشروعاته»‬.
وكانت‎ ‬العلاقات ‬بين ‬مصر ‬والدوائر ‬الغربية و‬لاسيما ‬الولايات ‬المتحدة ‬الأميركية ‬في ‬تلك ‬الفترة ‬غير ‬سوية‬، ‬ومع ‬ذلك ‬نجح ‬الوزير ‬الفارس ‬المثقف ‬في ‬أن ‬يخاطب ‬ضمير ‬العالم ل‬إنقاذ ‬تلك ‬المعابد‬، ‬وقد ‬نجح ‬في ‬ذلك ‬إلى ‬أبعد ‬حد ‬ومدى‬، إلى ‬الدرجة ‬التي ‬دفعت ‬الولايات ‬المتحدة ‬الأميركية نفسها ‬لأن ‬تشارك ‬في ‬هذا ‬العمل الحضاري ‬الكبير.

55 ‬كـتـابـاً
وقد استطاع‎ ‬عكاشة ‬أن ‬يقنع ‬هيئة ‬اليونيسكو، ‬التي ‬تمثل ‬عقل ‬الأمم ‬المتحدة ‬الثقافي‬، ‬بأهمية ‬هذه ‬الخطوة‬، التي ‬ما ‬كانت ‬مصر ‬تقدر ‬عليها ‬بمفردها، ‬وقد ‬أثمرت ‬جهوده ‬بالفعل ‬في ‬انتشال ‬تلك ‬الآثار ‬الحضارية ‬منقطعة ‬النظير، ‬لتظل ‬شاهدة ‬على ‬كفاءة ‬هذا ‬المسؤول ‬فوق ‬العادي‬.
ومرة‎ أخرى، ‬عاد ‬ثورت ‬عكاشة ‬إلى ‬منصب ‬وزير ‬الثقافة‬، ‬و‬كان ‬ذلك ‬في ‬الفترة ‬من ‬1966 ‬إلى ‬1970‬، ‬وللقارئ ‬أن ‬يدرك ‬مدى ‬جسامة ‬المسؤولية ‬في ‬تلك ‬الفترة، ‬التي ‬شهدت ‬انكساراً ‬كبيراً ‬في ‬النفس ‬المصرية ‬بعد ‬هزيمة ‬1967‬، ‬و‬كانت ‬البلاد ‬والعباد ‬في ‬حاجة ‬إلى ‬استنهاض ‬الهمم ‬مرة ‬جديدة‬، ‬والاستعداد ‬لمعركة ‬التحرير‬.
‎ ‬ونجح ‬عكاشة ‬بالفعل ‬في إحداث ‬تغيير ‬جذري ‬مكمل ‬في ‬المشهد ‬الثقافي ‬مرة أخرى ‬في ‬تلك ‬الفترة، ‬وكان ‬الدعم ‬الأدبي ‬والثقافي‬، ‬المسرحي ‬والسينمائي، ‬الصحفي ‬والإذاعي‬، ‬من ‬العوامل ‬التي ‬ساعدت في رفع ‬الروح ‬المعنوية المصرية ‬في ‬زمن ‬حرب ‬الاستنزاف ‬ورفض ‬الاستسلام، ‬ما ‬قاد ‬لاحقاً ‬إلى ‬النصر ‬الكبير ‬في ‬حرب ‬أكتوبر ‬1973‬.
أما‎ ‬عن ‬المعين ‬الفكري ‬والثقافي ‬الذي ‬خلفه ‬عكاشة‬، ‬فيزيد ‬على ‬55 ‬كتاباً، ‬بين ‬التأليف ‬والتحقيق ‬والترجمة‬، ‬وفي ‬مقدمها ‬تلك ‬الموسوعة ‬الخالدة ‬في ‬تاريخ ‬الفن ‬الأممي، التي ‬أطلق ‬عليها ‬عنوان «‬العين ‬تسمع ‬والأذن ‬ترى»‬، و‬صدرت ‬في ‬16 ‬مجلداً ‬استغرق ‬العمل ‬عليها ‬25 ‬عاماً ‬من ‬سنوات ‬عمره‬.
ويمكننا،‎ و‬من ‬غير ‬تهويل، ‬اعتبار ‬الدكتور ‬عكاشة ‬مثقفاً ‬عضوياً ‬بتعبير ‬جرامشي، ‬والمثقف ‬المعولم ‬بحسب ‬واقع ‬حال ‬حاضرات ‬أيامنا‬، ذلك ‬أنه ومع ‬حرصه ‬الشديد ‬على ‬هويته ‬القومية، فقد ‬مثل ‬مشروعه ‬الفكري ‬إنجازاً ‬غير ‬مسبوق ‬مع ‬العوالم ‬والعواصم ‬الثقافية ‬حول ‬العالم‬، ‬و‬كان ‬بعيداً ‬كل ‬البعد ‬عن ‬الانغلاق ‬على ‬الذات، ‬بل ‬شرع ‬الأبواب ‬الثقافية ‬المصرية ‬واسعة ‬على ‬جميع ‬التيارات ‬الثقافية ‬العالمية، ‬وفتح ‬النوافذ ‬للهواء ‬الطلق ‬النقي، ‬وليس ‬للرياح ‬التي ‬تخلع ‬البيت ‬من ‬جذوره. والحال أن عكاشة‎ ‬في ‬مئويته ‬ترجمة ‬للقول ‬إن ‬الفكر ‬لا ‬وطن ‬له‬، ‬وإن ‬الحضارة ‬تراث ‬واحد ‬ممتد ‬ومتواصل ‬لابد ‬وأن ‬ننهل ‬منه ‬كيفما ‬نشاء.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©