الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

نسيان النسيان

نسيان النسيان
18 مارس 2021 00:55

عبد السلام بنعبد العالي

«لنتصور إنساناً لا يملك القدرة على النسيان، إنساناً حُكم عليه بأن يرى في كل شيء صيرورة متواصلة، إن هذا الإنسان لن يؤمن حتى بوجوده الخاص، لن يؤمن بذاته. إنه سيرى كل شيء قد انحلّ إلى ما لا نهاية له من النقط المتحرّكة، وسينتهي بأن يَضيع في هذه الصّيرورة الجارفة، وكتلميذ وفيّ لهيرقليطس، فإنّه لن يجرؤ على رفع أدنى صوت احتجاج ضدّ ذلك! 
كلُّ فعل يقتضي النسيان، مثلما أن كلّ حياة عضوية لا تتطلّب النّور وحده، وإنما تقتضي الظلمة أيضاً. إنّ الإنسان الذي يريد أن ينظر إلى الأشياء فقط نظرة تاريخية، هو مثل إنسان مُنع من النّوم، أو مثل حيوان لا يعمل طيلة الوقت إلا على اجترار الطّعام ذاته. من الممكن للمرء أن يعيش سعيداً من دون حاجة إلى ذاكرة على وجه التقريب، شأنه شأن الحيوان. إلا أنّه من المستحيل عليه أن يعيش من غير نسيان».
نيتشه، اعتبارات في غير أوانها

في قصة «فونيس أو الذاكرة»، يروي خورخي لويس بورخيس حكاية شابّ فقدَ القدرة على النّسيان. فعلى إثر سقطته من على ظهر حصان غير مروّض، لم يُصَب أرينيو فونيس بفقدان الذاكرة فقط، وإنما بفقدان النّسيان أيضاً. وعلى رغم ذلك فقد «كان مكابراً حتى أنه يتظاهر بأن فجيعة السقطة هي في الواقع نعمةٌ من النعم»: «قبل ذلك المساء الممطر، حيث ألقاني الجواد الأدهم من على صهوته، كنتُ مثل بقية البشر: كنت فاقد البصيرة، أصمّ بليداً، كنت شديد النسيان». ولذا فقد أصبح يَنظرُ إلى الأعوام التسعة عشر التي قضاها قبل الحادث على أنّها سنوات ظلام: «كنت أنظر من غير أن أرى، وأسمع من غير أن أفهم، كنت أكاد أنسى كل شيء». وحين سقط من على الحصان «فقد وعيه، وعندما أفاق، كان الحاضر ثرياً جدّاً وناصعاً إلى حدّ لا يطاق، وكذلك كانت أقدم ذكرياته وحتى أقلها شأناً».

الإدراك العميق
لقد انعكست نظرته إلى الأمور رأساً على عقب، «في لمحة بصر قد ندرك نحن ثلاث كؤوس من عصير على الطاولة، أما فونيس، فسيكون بإمكانه الإحساس بكل حبة عنب تمّ عصرها في ذلك العصير، وبكل عنقود من العناقيد التي تشكّل الكروم». وإدراكه الدّقيق للزمن والأشياء الخارجية يمكّنانه من أن يحفظ في لحظة زمنية وجيزة، كلّ جزئِية من جزْئيات الواقع المدرَك: «كان يعرف أشكال الغيوم في السماء الجنوبية فجر الثّلاثين من شهر أبريل لسنة 1880، وكان بإمكانه مقارنتها بذكرى بُقَع على جلد كتاب له شكل المرمر لم يره إلا مرّة واحدة، أو مقارنتها برذاذ الماء الذي يكسو مجدافاً يمخر نهر ريو نغرو عشيّة معركة كيبراكو». و«نحن قادرون على حفظ أشكال مثل دائرة مرسومة على اللوح، ومثلّث قائم الزاوية أو معيّن. أما أرينيو، فهو قادر على الشيء ذاته مع الفروة الكثيفة لمهر، وبعض قطع الماشية على سفح الجبل، ووميض النار ورمادها الذي لا يُحصى، والوجوه العديدة لميت خلال ليلة الجنَّاز». فما بالنا إن أدخلنا في الاعتبار عدد المرّات التي يدرك فيها الشّيء: «لم يكن فونيس يتذكّر فحسب كلّ ورقة من كلّ شجرة من أشجار كلّ غابة، وإنما يتذكّر أيضاً كلّ مرّة رآها فيها أو تخيّلها».

ثراء الذاكرة
كان فونيس يؤمن بأنّ الثّمن الذي أدّاه مقابل نعمة الذّاكرة ثمن بخس، حتى وإن كان ما لحق جسده جرّاء الحادث قد أصبح يحول بينه وبين الحركة. كان ثراء ذاكرته وما تُخلِّف لديه من إحساسات يدفعه إلى الشّعور بأنه أصبح يملك الواقع بكل جزئياته. بل إنّه كان يرى أنّ له قدرة جبّارة على استعادة أحلامه بكل تفاصيلها.
صحيح أن تزاحم الذّكريات بكل جزئياتها كان يحول بينه وبين إعادة ترتيبها. فلا غرابة أن يصدر عنه نوع من النّدم، ولذا فسرعان ما يعترف لبورخيس: «إن ذاكرتي، يا سيّدي، أشبه ما تكون بركام من النفايات»! ووراء وهْم التمكّن من الواقع والسّيطرة على جزئياته بحذافيرها، يكشف لنا بورخيس في آخر القصة الفقر المدقع الذي يعيشه فونيس، والسّجن الذي يُطوّقه ويمنعه من أن «يتجرّد» من هذا الواقع الذي يغمره كلياً: «أشكّ، مع ذلك، في أنّه قادر على التّفكير. التّفكير هو تناسي الاختلافات الجزئية، هو التّعميم والتّجريد. أما في عالم فونيس الممتلئ، فلا وجود إلاّ للجزئيات والتفاصيل التي تكاد تكون مباشِرة». 
التّفكير هو القدرة على الانتقاء والاختيار والتّصنيف وأخذ المسافات، وكل الأمور التي يعجز عنها فونيس الغارق في بحر المعلومات الجزئية والتفاصيل الدقيقة. فهو «لا يمكنه أن ينتقل من الأفراد إلى النّوع، لا يمكنه أن ينتقل من هذا وذاك الكلب المشار إليه إلى النّوع (كلب). بل إنّه لم يكن عاجزاً فقط عن أن يدرك أن النّوع (كلب) يشمل كل ذلك العدد من الكلاب متباينة الأصناف والأشكال. لقد كانت تغيظه حقيقة أن كلب الساعة الثالثة وأربعة عشرة دقيقة الذي تمت مشاهدة صورته الجانبية، يجب أن يشار إليه بالمفردة ذاتها التي تشير إلى كلب الثالثة وخمس عشرة دقيقة».

حضور ممتلئ
فونيس ليس فقط عديم الحركة مكاناً، بل هو أيضاً عديمُها زماناً. إنه ملتصق بحاضره بكل تفاصيله، عاجز أن يتّخذ منه مسافة. صحيح أنّه حاضر ممتلئ، فهو يُدرك كل جزئية من الواقع في زمن لحظي فيحتفظ بذكراها كامل الاحتفاظ. إلاّ أنه لا يستطيع أن يفصل هذا الحاضر عن ماض ولَّى. فذاكرته التي لا تنسى تحوّلت إلى قدرة جبّارة على الإدراك. بل إنه لم يعد يتذكر وينسى، وإنما أصبح يكتفي بالإدراك. ففونيس سجين الغرفة المظلمة التي يغلقها على نفسه، هو أيضاً سجين اللحظة الحاضرة التي تكثّف الزّمان كلّه: «لديّ بمفردي من الذّكريات ما لم تعرفه البشرية جمعاء منذ أن كان العالم عالماً». إن ذاكرة فونيس ترزح تحت ثقل إدراكه اللانهائي الشّامل. لقد تحوّل عنده الإدراك إلى استحضار لحظي لما نسمّيه تاريخاً: «كان فونيس قد ولد سنة 1868. بدا لي ضخماً مثل أثر تاريخي، مثل تمثال من البرونز، بدا لي أقدَم من مصر السابقة على الأهرامات».

حمَّى التاريخ
بإشاراته المتكررة إلى بعض التواريخ، يصرّ بورخيس على أن يذكّرنا بأن بطل حكايته ينتمي إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ذلك القرن الذي يسمّى «قرن التاريخ»، حيث إن «حمّى التاريخ» التي يتحدث عنها نيتشه، دفعت البعضَ إلى أنْ يتحوّل، مثل فونيس، إلى «آلة تخزين» سرعان ما ستتحول بدورها إلى قدرة جبّارة على «حفظ المعلومات وادّخارها»، كي تجعل الإنسان غارقاً في الجزئيات، عاجزاً عن أخذ المسافة بينه وبين واقع تحوّل إلى «ما لا نهاية له من النقط المتحركة»، والأخبار المتدفقة، والمعلومات الفيّاضة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©