الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

على درب الإيلاف

على درب الإيلاف
4 فبراير 2021 00:19

د. عزالدين عناية

كانت خطوة جريئة تلك التي خطاها بابا الكنيسة الكاثوليكية فرنسيس (جورج ماريو برغوليو) باتجاه العالم الإسلامي، حين قدم إلى أبوظبي ووقّع رفقة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وثيقةَ«الأخوة الإنسانية» (2019). فقد عبّرت القيادتان الروحيتان، المسيحية والإسلامية، ممثَّلتان في شخصيْ قداسة البابا وشيخ الأزهر، عن أسمى معاني تحمّل المسؤولية في زمن يعجّ بالقلاقل والمناكفات وأشكال العنف المتنوعة، وقد يبدو لقاء القيادتين، للوهلة الأولى، معبّراً عن تقارب بين دينين وحضارتين، ولكن مقاصد الوثيقة كانت أبعد من انحصارها بشواغل أتباع الدينين، إذ بدت منفتحة ومعنيّة بسائر الأديان والمجتمعات وإن صيغت من قبل طرفين.
ما الذي عبّرت عنه الوثيقة في جوهرها في زمن يمور بالصراعات؟ بصدور الوثيقة نشهد عودة الأديان إلى لعب دور إيجابي في الكون إيماناً بمسؤوليتها الروحية الجوهرية.. إنها العودة الثابتة إلى الدور الحقيقي، لِما يمكن أن يكون عليه الدين في زمن يطغى عليه عدم الاكتراث وتَشِيع فيه الأنانية على مستوى واسع، أو بحسب توصيف البابا فرنسيس لعالمنا وقد «تعولمت فيه اللامبالاة» بشكل فاجع، ممّا ألحق ضرراً بالغاً بمفهوم الأسرة الدولية وبثَّ الانهزامية في المجتمع الدولي، فقد شكّلت الوثيقة انتقالاً بالتواصل الكوني من مستوى المصالح والأحلاف المادية الصرفة إلى مستوى قيمي وخُلقي يدور حول مبدأ الأخوة الجامعة، وما كانت الوثيقة عاطفية أو حالمة في دعواها، بل مقدِّرة ومدرِكة، لِمَراقٍ لزم ترقّيها صوب ذلك الهدف السامي.
لماذا نعتْنَا تلك الخطوة التي اتخذها البابا فرنسيس بمجيئه إلى أبوظبي بالجريئة؟ بالأساس لأنّ تلك الخطوة هي تحدّ لعوائق في الداخل الغربي، ولعديد الأطراف فيه تحاول أن تجعل الخلافات أبدية والصراعات أزلية بين دينين خرجا من مشكاة واحدة، فهناك نفاثون في صراع الحضارات يرفضون تلك المبادرة، وهناك شعبويون ترهقهم إنسانية البابا، وهناك ضيق ديني يمقت انفتاح البابا على أحد أركان البيت الإبراهيمي وتعزيز الحوار معه. 
لقد عبّر البابا فرنسيس عن نهج أصيل في المسيحية يمتدّ إلى سلفه فرنسيس الأسيزي (1182 - 1226م)، الذي تجشّم الصعاب وقدم إلى السلطان الكامل محمد الأيوبي بحثاً عن سلام عشية أهوال الحروب الصليبية.. البابا فرنسيس في الزمن الحالي هو بالمثل تخطّى عقبات جمة في الغرب، شوفينية وشعبوية ودينية، لا تودّ الصلح مع العالم الإسلامي، فالبابا فرنسيس تخطى كل تلك العراقيل وقدم إلى أبوظبي محتفياً بهذا الإنجاز العظيم، ولم يكف عن استحضاره في المناسبات المهمّة (بدا صدى ذلك جليّاً في الرسالة البابوية الأخيرة للبابا «كلّنا إخوة»).

وعي الضمير الديني
لقد صَدَرت وثيقة «الأخوة الإنسانية» من بلد مسلم، الإمارات العربية المتحدة، وممهورة من قِبل قيادة إسلامية مقدَّرة، الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، لتعلن للعالم أنّ الدين الإسلامي براء ممّا يُقتَرف باسمه من عنف، وهو دين حريص على الإخاء البشري حرصه على الإخاء بين معتنِقيه، وهو يشدّد على حرمة النفس والعرض والدين، وأن المسلمين الصادقين أبرياء مما اقترفه بغاة وهم لا يرضون الأذى لأحد، إذ لم تتأذَّ صورة المسلمين ودينهم مثلما تأذّت خلال الفترة الأخيرة بفعل اجتياح موجات العنف المتكرّرة سكينة المجتمعات، حتى باتت عدة أوساط مرتعاً لصنّاع القتل وترهيب الآمنين، لم يبق هذا العنف الأهوج داخل ديار المسلمين وحدهم، بل لحقت أهواله بلدان نائية آمنة، ولو شئنا تنزيل الوثيقة في إطارها الحقيقي، لقلنا إنّها إنجاز بحدّ ذاتها لِما فيها من إدراك من القيادتين الروحيتين، ومن الجهة الراعية للوثيقة، للتسامي فوق القلاقل والاضطرابات والذهاب إلى غور معالجة الأشياء من خلال إرساء حلف روحي جامع.
فقد كشفت العولمة عن أنّ الأديان معنيّةٌ بما يجري من تحوّلات، على مستوى التعايش والتعدّد والتداخل، وهو ما بات أمراً واقعاً، فما عادت الجغرافيا التقليدية للدين في الزمن المعولم تعني شيئاً، وقد أضحت مدن العالم الكبرى، إن لم نقل قراه وبلداته، في الشرق والغرب، فضاءات جامعة لشتى العقائد والأديان ولمختلف الأفراد القادمين من شتى الأصقاع، وما عاد بوسع أيّ معتقَد أن يدّعيَ أنّ الفضاء خاص به أو حِكرٌ على أتباعه، ومن هذا الباب غدا مطلب التآخي بين بني الإنسان حاجة يرنو لها الجميع.
فالسياق العولمي للأديان، يضعنا أمام ضرورة التفكير معاً لإيجاد صيغة تتجاوز البراديغمات السالفة الأحادية والدخول في براديغم جماعي جديد، وطور مغاير يكفل لكل خصوصية دينية وعرقية وثقافية حقّها في الوجود، فما من شك في أن وثيقة «الأخوة الإنسانية»، التي أتت مدركة لهذه التحولات في عالمنا، هي نتاج وعي في الضمير الديني بأنّ الرصيد الروحي للبشرية قادرٌ على الإسهام في خلاص البشر، ليس في أخراهم فحسب، بل وفي دنياهم، من خلال بثّ قِيم التكافل والتراحم القادرة على صنع الخير والأمان والسلام للجميع، فأن تنشغل قيادة دينية في دين ما بما يمسّ أتباع الدين الآخر من حيف وتهجير وتقتيل (كما هو الحال أثناء تواصل البابا فرنسيس مع وفدٍ من مهجَّري الروهينغا المسلمين في بنغلادش، أو كما رأينا أيضاً في إدانة شيخ الأزهر للاعتداءات التي لحقت بالمسيحيين الآمنين في فرنسا وغيرها)، هو مؤشّر على تحولات إيجابية في الضمير الديني الجمعي.
وبالفعل تزخر الأديان بقِيم الأخوّة والتعاضد والتكافل، ولكنّ الحرص اليوم هو على نقل ذلك الرصيد الإيجابي من مستوى المعتقَد الواحد إلى مستوى أوسع، تتحوّل بموجبه البشرية جمعاء إلى أسرة واحدة مهْما اختلفت العقائد وتباعدت الأجناس، من هذا المأتى جاءت وثيقة أبوظبي مدرِكة ومقدِّرة لِما يختزنه كلّ دين على حدة من قِيم، ومؤمنة بالحاجة إلى استثمار تلك القيم على نطاق أوسع بما يعود بالنفع على البشرية قاطبة؛ لأنّ الأخوة الإنسانية هي اعترافٌ بالمضاهاة والندية مع الآخر.

نقلة إيجابية
تحرّض وثيقة أبوظبي الجميعَ على هجران مركزية الدين الأوحد وتبنّي الشراكة في صنع الخلاص، وهي نقلة إيجابية في فهم أبعاد الدين ومقاصد التديّن، إنه مفهوم الائتلاف البشري الباحث عن التحقّق، ذلك أنّ غرض الدين ليس توسيع نطاق دائرة معتقديه وزيادة عدد أتباعه، في غياب أي وازع إنساني جماعي، بل على خلاف ذلك، يبقى الهدف الأسمى للأديان في صنع الخيرات، فما الغرض من اكتساح دين بعينه لسائر المعتقدات إن كان يعوز تلك البشرية الأمن والسلام؟، من هذا الباب يلوح التنافس في الخيرات هو المقصد الأسمى للأديان وإن اختلفت الشرائع، وأن يرتفع شعار «الأخوة الإنسانية» من أبوظبي هو تجلّ عمّا تعيشه تلك الأرض الآمنة، التي استطاعت أن تؤوي ملايين الوافدين من شتى الأصقاع، ومن مختلف العقائد والأجناس، وأن تؤلّف منهم أنموذجاً للتعايش والأمان.
ففي حقبة تاريخية عاصفة يعشيها العرب والمسلمون، أدركت أبوظبي ثِقل الرسالة الملقاة على عاتقها وهي تؤسس للتصالح مع الإنسانية، فما من شكّ أنّ حالة الانهيار والتفتّت التي تتربّص بجملة من البلدان قد باتت دافعة للقيادة الإماراتية للبحث عن سبل مجدية لتجديد الوفاق مع العالم، وبرغم حرص أبوظبي للمّ شمل العرب ولأْم جراحاتهم وترميم انكساراتهم، فإنّ ذلك لم يُلهِها عن البحث عن تجديد التحالف مع البشرية لتجاوز مشاكلها الكبرى، على هذا الأساس بدا الوعي بمسارات الأحداث وتحولات التاريخ عميقاً، في أرض أبت إلّا أن تكون الموئل للخير والنور والأمل للجميع.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©