السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الهوية والثقافة والتسامح في أعمال ميسون آل صالح

الهوية والثقافة والتسامح في أعمال ميسون آل صالح
28 يناير 2021 00:20

عز الدين بوركة

الفنان ابن ثقافته، هكذا هو شائع! بل إنه من صُناع هذه الثقافة، بينما يغدو عمله مرآة لها وتصويراً فنياً لها، وتعبيراً استتيقياً لها. في الوقت عينه لا يعد الفنان -يوم- منفصلاً عن المستجد والآني والراهن.. فهو جزء لا يتجزأ من «الفعل» والحدث، سواء داخل بلده أو على مستوى العالم، في ظل حديثنا عن الهوية السائلة والعولمة المنصهرة. وإن العمل الفني بات عاملاً من عوامل استقراء التغيرات واستشرف المستقبل.. نوع من البارومتر الذي نقيس به الحادث والطارئ والقادم..لا يخرج الأثر الفني لدى الفنانة التشكيلية الإماراتية المعاصرة ميسون آل صالح عن هذا الطرح، الذي بات رديف الاشتغال المعاصر، في انفلات من الذاتية كما رسمتها الحداثة الفنية؛ إذ غدا الفن كما يذهب غدامير إلى «يسمح للذات بأن تجرب بعض العلاقات الخاصة مع الواقع». فالعمل الفني يقدم لنا ملمحاً مجهولاً في الواقع، لم ندركه إلا بإعمال التأويل بما يقدمه لنا من إمكانيات وسيناريوهات، فلا وجود لوقائع بتعبير نيتشه، بل هناك فقط تأويلات. والتأويل هو منطلق قراءة أعمال هذه الفنانة المدهشة.

  • ميسون آل صالح
    ميسون آل صالح

يراوح الاشتغال الفني عند ميسون نفسه بين ما هو سريالي وما هو معاصر (بوب آرت وبرفورمانس...)، إلا أنها لا تتوانى عن جعله حاملاً لرسالة ما.. ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببلدها الأم بشكل خاص، وبثقافتها وهويتها العربية المتعددة، والتي تتطور وتتلاقح وتتعدد.. فتلامس لنا عبر صباغاتها هذا التطور وهذا التقدم الحاصل. إذ نلمس -ونحن نشهد ما عرفته دولة الإمارات مؤخراً، من انفتاح غير مسبوق على «الآخر» من منطلق التسامح والصفح والسلام- هذا البعد في أعمالها، سنة 2019، التي اختارت لها عنواناً دالاً «عام التسامح»، أسوة بما أقدمت عليه بلادها الإمارات من خطوات الانفتاح والسلم. ما يسلط الضوء على هذا البلد العربي كعاصمة عالمية وعربية للتسامح، الذي يغدو اليوم مفهوماً عالمياً يجد شرعيته من خلال التشريعات والسياسات الهادفة إلى ترسيخه وترسيخ قيم التعايش والانفتاح على الثقافات المختلفة، وخاصة بين الشباب، ما ينعكس إيجاباً على المجتمع ككل. ولا يخرج الفن من هذه الدائرة وهذا الفعل الذي يروم إلى إرساء هذه القيم التي يبدو العالم اليوم في أمس الحاجة إليها للخروج من الصراعات التي لم تقد إلا لمزيد من الدمار. كأني به الفن، والحالة هذه أعمال ميسون آل صالح، يصير «ضمادة» لمعالجة الجراح. حيث نقف إزاء أعمال منتمية للبوب آرت، بألوانه الساطعة والمثيرة، تجعل من هيئات بشرية مجهولة وبلا ملامح صوراً دالة، لكننا –ورغم انمحاء المعالم الوجوه- ندرك انتماءها الديني والثقافي (عرب، مسلمون، مسيحيون، غربيون، يهود، بوذيون، هندوس...) من خلال لباسها، وهي تتقدم الخلفية التي تحيل إلى الإعلام، بكل ما يمتلكه هذا الأخير من رمزية ودلالة قوية، تشير إلى الفعل الأساسي الذي يلعبه في نشر العدوان والخصام أو السلم والتسامح. ولم يكن من باب الصدفة أن تختار هذه الفنانة تيار البوب لتشكيل إبداعاتها الفنية، فهذا التيار يمنح للفنان إمكانيات الابتكار بما يمتلكه من بساطة وحرية ومرونة في الاشتغال، وكما أنه يرتبط بصلة بالفنون الشعبية، هذه الأخيرة التي تهتم بها ميسون اهتماماً كبيراً. محاولة أن تجعل العمل الفني أكثر واقعية، ليس من خلال تجسيده للواقع بشكل حَرْفيّ، بل الاهتمام فقط بـ«الموضوع»، حيث إن «الأثر الفني موضوعي وواقعي إلى أبعد حد»، بالنسبة لغادامير.

الفن وثقافة المساواة
ارتبط اسم ميسون آل صالح، بدءاً بالفن الحديث من حيث اهتمامها بالمدرسة السريالية، التي استندت عليها لإعادة تشكيل الثقافة الإماراتية التقليدية، حيث عمدت في اشتغال لها إلى تصوير عبر لوحاتها هياكل عظمية بشرية وحيوانية.. في لعب فني بين ثنائية الموت والحياة. وهذه الثنائية تعد من أهم الثنائيات التي اهتم بها الفن منذ القدم، بل تكاد تكون الأهم والأبرز؛ لننظر إلى رسومات الأهرام، ولجذر مصطلح imago الذي تم اشتقاق منه كلمة image: الصورة؛ والذي يعني القناع الشمعي الذي يوضع على وجه الميت !.. وإن كان «التفلسف هو تعلم الموت»، كما يذهب دريدا، فإن الفن يعلمنا العيش/‏‏الحياة، و«تعلُّم العيش ينبغي أن يعني تعلُّم الموت، وأن نأخذ في الحسبان الفناء المطلق»، كما يضيف. وإننا كلنا مندفعون غرائزيـا نحو الموت، مهما حاولنا الهروب منه فهو القلق الذي يطاردنا ويؤرق نومنا، كما يقول هايدغر. و«إننا كلنا متساوون أمام الموت»، هكذا تكاد تخبرنا ميسون آل صالح في أعمالها هذه. 
في أعمالها بقدر ما نفاجأ بالموت ونخاف منه، فنحن نُفتنُ به، ويا لها من دهشة! وما افتتانها بالهياكل العظمية والموت، واختيارها إياها موضوعاً دالاً، إلا نتاج ما شاهدته من صور سينية لظهرها، وهي شابة في عمر السادسة عشرة. لتشمل أعمالها منذ ذلك الحين رسومات لحيوانات بهايكل عظمية في بيئة الصحراء، وعظام رجال ونساء في أعمار مختلفة. بينما في إحدى أعمالها تضعنا ميسون أمام قطعة لأم حزينة، مغطاة بعباءة ووشاح أسود، ممسكة بطفلها الرضيع. استوحتها من قصص الأمهات في مناطق الحرب. تسعى الفنانة عبر هذه الأعمال أن تبرز الجانب الهش فينا، وكم نحن سواسية أمام المسمى الموت! إذ تقول «لا هروب من الموت. كلنا متساوون في عينه، حيث لا يحكم على مظاهرنا الخارجية ولا يهتم بعرقنا وطبقتنا وسننا».. ومن هنا يمكننا أن نربط هذه الأعمال السريالية بالأخرى المنتمية للبوب آرت، من حيث طرح أهمية العودة للإنساني فينا، لحالة الافراط في الإنسانية وإقامة جسور العبور جهة الآخر. من أحل المزيد من التسامح والسلام، بعيداً عن أي صراعات «حضارية» أو غيرها، لا تقود البشر إلا لمزيد من الهلاك. كل هذا في ظل انفتاح ثقافي وهوياتي تنصهر فيه كل الأمم والشعوب من أجل بناء حضارة إنسانية، بتعبير تودوروف، تستوعب كل البشر.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©