الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

التوازن بين الحياة والعمل

التوازن بين الحياة والعمل
28 يناير 2021 00:20

ترجمة: أثمار عباس

قد تبدو نظرية العمل جافة وقاسية، وفقاً للعمل والمجهودات التي يبذلها الإنسان لتحصيل المنفعة. لكن التفكير بالعمل وما الذي يدفعنا للعمل قد يكون مثيراً للاهتمام، فيما إذا كنا سنعمل بسبب واجب الالتزام، أم لرغبة ما بداخلنا. 
إذا نظرنا عن بُعد إلى كل الأعمال التي يقوم بها البشر، قد تبدو لنا وكأنها لعب، لهو وعبث بلا معنى. ربما يبدو النشاط البشري وممارسة الأعمال على الأرض أشبه بمجموعة من النمل تتحرك باستمرار، لا تستقر في مكان ولا تكف عن العمل أبداً، على الرغم من عدم وجود هدف مشترك بين النمل إلا أنها جميعاً تعمل، يتحرك النمل هنا وهناك، يتلاقى وينفصل، يحمل الأشياء، يتعب، يستريح ثم يواصل العمل مرة أخرى. بشكل عام، نحن البشر نعمل على قدم وساق في شتى المشاريع المختلفة ومع ذلك سنموت في النهاية، ثم بعد ذلك يصبح العمل لسبب ما غير مهم، بقدر ما كان ضرورياً في الحياة، ولكن لماذا كل هذا؟ لماذا نعمل؟ ما سبب قيامنا بالأشياء؟ هل يقودنا العمل لواجب ما نؤديه، أم أننا نقوم به لرغبة في دواخلنا؟

هناك دوافع عديدة تدفع البشر للعمل، منها، يعمل الناس من أجل الوصول إلى أهداف بعيدة المدى، وهذا قد يشكل التباساً ضد رغبة الإنسان في حالاته ولحظاته الآنية، وهناك دوافع تحفز للعمل من أجل الآخرين أو من أجل أنفسنا، أو ربما نعمل لتحقيق أمر ما جيد للخير العام أو لتجنب أمر شرير، وقد نعمل لمصالح معينة أو أحياناً لنجعل العالم يبدو بشكل أفضل.
الأمر الأهم للمفكرين هو إيجاد التوازن بين الحياة والعمل، أما بالنسبة للفيلسوف البريطاني برتراند راسل، فإن العمل لساعات أقل يزيد من السعادة البشرية، أي أن الطريق إلى السعادة يأتي من خلال تخفيض مُنظم لساعات العمل، كان راسل معتاداً العمل وتقصي البحوث طوال حياته، فقد كتب خلال مسيرته الطويلة مُجَلّدات لا تُحصى، ظل نشيطاً يشتغل ويعمل بلا كلل حتى بلوغه سن 97 عاماً، ولكن نتساءل: لماذا يقترح هذا المفكر النشط الذي استمر يعمل إلى آخر لحظة في حياته، أن نعمل لساعات قليلة؟ في مقال كتبه راسل بعنوان «في مديح الكسل» نشر للمرة الأولى عام 1930 في خضم الكساد الاقتصادي والأزمة الاقتصادية العالمية، التي أعقبت انهيار وول ستريت 1929، ربما كان الأمر غير مناسب أن يُشجع على الكسل في زمن وصلت فيه نسبة البطالة إلى ما يقارب ثلاثين بالمئة في أجزاء من العالم، ولكن بالنسبة لراسل، كانت الفوضى الاقتصادية هي نتيجة لاتباع موقف متجذر وخاطئ في العمل، لقد أقرّ راسل بأن العديد من أفكارنا حول العمل ليست سوى خرافات ينبغي تصحيحها وتعديلها من خلال التفكير بها بشكل صحيح.

تقييم أخلاقيات العمل
وفقاً لراسل، إن التاريخ مليء بهؤلاء الذين كرسوا معظم حياتهم للعمل الشاق ولكنهم لم يحصلوا على أي شيء على الإطلاق، عدا ما يسد رمقهم ويبقيهم وعائلاتهم على قيد الحياة، بينما ينعم سادة الحروب والكهنة، أو الطبقة العليا الكسولة بالسيطرة على كل فائض الأرباح ومُصادرة‏ كل ما ‏يُنتجه أولئك الكادحين و‏حرمانهم من كل شيء. إن هؤلاء المستفيدين دائماً هم الذين شكلوا أساساً جائراً، وغير عادل لأخلاقيات قانون العمل، نسمعهم يثنون باستمرار على العمل الشاق ويضفون بريقاً للجهود الشاقة التي ترهق العامل وتنهك حياته، إن هذه الحقيقة وحدها كافية لتجعلنا نُعيد فوراً تقييم أخلاقيات العمل لأننا عندما نمدح ونُشجع العمل الشاق، نشجع لا إرادياً على اضطهاد أنفسنا. 
قد يبدو مقال راسل الذي أراد به التركيز على الحياة المثالية يطمح إلى «يوطوبيا‏»، مدينة فاضلة تنخفض فيها ساعات العمل إلى أقل حد ممكن، ويذكرنا أنه ينبغي أن لا نحط من أهمية المرح، وعلينا أن لا نحرص ونُدَقِّق‏ على الحياة العملية فقط وإنما هناك أهمية أيضاً ومعنى كبير في التَكاسل، وأن يجد المرء لنفسه مساحة وفسحة للراحة لا يفعل فيها شيئاً. 

شقاء الروح
إن مواقفنا تجاه العمل غير منطقية... فنحن نقيم مختلف أنواع العمل بمختلف الطرق، نفترض أن العمل بحد ذاته أمر جيد، وهذا يؤدي إلى نكبات وانزلاقات وبالتالي إلى شقاء الروح وتعاستها.. يقول راسل: ينبغي أن نتحدى تلك المُطالبات، وأن لا ننظر إلى العمل كأداة التزام أو ‏واجب نقوم به فقط، وإنما ينبغي النظر إليه أيضاً كسمة، مزيّة نتميز بها، ولأننا ننظر إلى العمل بحد ذاته كشيء مهم، ‏ذي قَيِّمة عالية، لدينا نزعة لتقييم هؤلاء العاطلين عن العمل على أنهم أقل قيمة من الناس الذين يعملون، وهكذا كلما فكرنا بالأمر أكثر، أصبحت مواقفنا تجاه العمل أكثر تعقيداً، وسيبدو مفهومنا للعمل أكثر إرباكاً وحيرة. 
إذن، ما الذي يمكن أن نفعله كي يشعر الجميع بالرضا سواء كنا نعمل أم لا؟ إن اقتراح راسل بهذا الخصوص هو أن نترك كل تلك الأفكار القديمة القادمة من ما تبقى من انطباع مقدس للعمل، وأن ننظر إلى مفهوم العمل كمصطلح يعبر عن حياة بشرية مُرضية، وعلى هذه الطريقة ينبغي أن تستمر حياة البشر، إذا فعلنا هذا الأمر، سيكون من الصعب علينا تجنب الاستنتاج الذي يقول: ينبغي أن نعمل لساعات أقل. 

نوعان من العمل
إن نظامنا الحالي يتضمن نوعين من العمل، ناس تعمل وناس لا تعمل. النظام الأول يعمل أناس لساعات طويلة دائماً وهم بهذه الحال تعساء لا يشعرون بالراحة والرضا. والقسم الآخر أناس لا يعملون وهم أيضاً تعساء لا يشعرون بالرضا، يبدو أن هذا النظام غير مفيد للبشرية، وذلك لأن الجميع غير راض، ويرى راسل أنه عندما نقَلِّل ساعات العمل، سيتم التقسيم على الجميع وهذا يجعلنا نكون أحراراً أكثر، نشعر بأن لدينا وقتاً كافياً لنطور اهتماماتنا وإبداعاتنا الفنية الخاصة بنا، في هذه الحال سينظر المجتمع إلى الفن والإبداعات الخاصة بشكل جدي، ويأخذ العمل الفني على محمل الجد، لأن الفنانين سيكون لديهم الوقت الكافي كي ينتجوا أعمالاً ذات جودة عالية، دون أن يضطر الفنان مُرغماً على إرهاق نفسه والكفاح من أجل أن يُعيل نفسه. إلى جانب ذلك سيتعامل المجتمع مع حاجته لضرورة التَرفيه والتسلية بجدية عالية، كما يعني ذلك أيضاً أن المجتمع لم تعد لديه الرغبة في الحروب، لأن الحرب تعني أعمالاً كثيرة شاقة وثقيلة ومُرْهِقة لنا جميعاً. 

ضرورة حياتية
إذا سمحنا للعمل أن يأخذ جزءاً كبيراً من أوقات يقِظتنا ونشاطنا، لا يمكن لنا أن نعيش حياتنا بشكل كامل مكتمل، حيث يرى راسل أن الإجازة من العمل‏، التي كانت في السابق يتمتع بامتيازاتها ‏عدد قليل من الناس، ضرورية لحياة ذات معنى وأكثر ثراء، لذا فإن مقدرتنا على اللهو والاسترخاء والراحة قد تضررت من أعباء العمل وفعاليته. المجتمع الذي يأخذ الإجازة على محمل الجد سيأخذ الدراسة والتعليم بجدية أيضاً، يقصد راسل، لأن الدراسة والتعليم تعني أكثر من أنها مجرد تدريب المرء لحياة العمل. ‏

الفيلسوف البريطاني برتراند راسل:
لا يجوز للمرء أن يكرس أوقات إجازته بالتعافي من أعباء العمل، وإنما على العكس من ذلك، ينبغي أن تكون مليئة بالخلق والإبداع وأن يُشكل الجزء الأكبر من حياتنا الراحة والاسترخاء.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©