الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«العربية» في العالم

«العربية» في العالم
28 يناير 2021 00:20

د. عز الدين عناية

تُشكّل «العربية» إحدى اللغات الستّ المعتمَدة في الأمم المتحدة، جنب «الصينية والإنجليزية والفرنسية والروسية والإسبانية»، مع ذلك لا تزال تفتقر إلى مؤسسة تعليمية راعية تطير بها إلى مصافّ العالمية، وبما يضاهي تجارب مؤسسات أخرى مثل: «المجلس الثقافي البريطاني»، أو «المعهد الفرنسي»، أو «معهد دانتي أليغييري» للّغة الإيطالية، أو «معهد غوته» للّغة الألمانية. فقد ظلّت العربية، على مستوى الرواج والترويج، في أوساط غير الناطقين بها، دون تلك الرعاية التي تنعم بها اللغات الحيّة، لغياب جهة تتكفّل برفع لوائها تعليمياً وبيداغوجياً، الأمر الذي أبقى لغة الضاد مفتقرة إلى مرجعية مؤسّساتية تعليمية ذات صبغة عالمية.
لا يعني قولنا هذا أنّ الساحة العربية خالية من نواتات أو مؤسّسات التعليم الموجَّهة إلى غير الناطقين بالعربية، بل هي موجودة، ولعلّ أبرزها نشاطاً خلال العقود الأخيرة: «معهد بورقيبة للغات الحية» في تونس، و«معهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها» في دمشق، أو كما سُمي في وقت مضى «معهد تعليم اللغة العربية للأجانب»، و«دار الآباء الكومبونيين» في القاهرة. وقد شكّلت المؤسسات الثلاث محجّاً لتعلّم العربية على مدى عقود، الأمر الذي أكسبها وجاهة وخبرة، وجعل منها تقريباً أبرز المحطات التعليمية لمعظم المستعربين المعنيين بالعالم العربي وبتعلّم العربية في الحقبة الراهنة. هذا فضلاً عن «نواتات» تعليمية أخرى توزّعت بين الأردن وفلسطين والمغرب واليمن وليبيا وبعض دول الخليج، تنشأ وتندثر، بحسب الظرف والحاجة، وفي غياب تقليد تعليمي واضح.
فمنذ فترة متقدّمة بادرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بإحداث برنامج لترويج العربية في أوساط غير الناطقين بها، تكفّل بمهامه «معهد الخرطوم الدولي للغة العربية» (1974)، لكنّ تلك الخطوة الرائدة لم تتبعها خطوات لاحقة باتجاه تطوير برامج تنفتح على العالم، ما أبقى الكتب التعليمية المعتمَدة جامدة ومنطوية على نقائصها، كما ظلّت النظرة الترويجية حبيسة أفريقيا، وهو ما أغرق المعهد المذكور في أبعاد محدودة.
ولا يعني النجاح النسبيّ للمؤسّسات الأخرى التي وفّقت في تقديم العربية لغير الناطقين بها، أنّها نجحت في تطوير إمكانياتها وتنمية قدراتها، أو أنها سَعت في ارتياد آفاق جديدة تُجاري التحولات وتُلبّي الطلبات الحاصلة في العالم؛ بل افتقدت هي أيضاً إلى استراتيجية ترويج للعربية على نطاق عالمي وقنعت بانتظار القادم إليها. وقد كان لِما حلّ بالبلاد العربية خلال العشرية الأخيرة من قلاقل أمنية وسياسية الأثر الواضح على تراجع مردودية تلك المؤسّسات وتقلّص أعداد الوافدين. ففي تونس عَجزَ معهد بورقيبة، حتى اللحظة، عن الخروج من الحيز القُطري إلى خوض مغامرة تذهب إلى متعلّم العربية في العواصم الغربية وكبريات المدن العالمية، رغم الصيت الحسن الذي يحظى به المعهد. وفي مصر ما لبث العائق الأكبر متمثّلاً في تشتّت النواتات التعليمية بين «مؤسسة الأقصر»، و«المعهد الدولي للّغات» و«مركز فجر لتعلّم اللغة العربية»، وأخرى موزعة بين القاهرة والإسكندرية، وعدم توحيد الجهود. سيما وأن «دار كومبوني» هي في الأصل مؤسّسة تعليمية موجَّهة لتكوين عناصر الإرساليات الكاثوليكية، ولكنها انفتحت على غير رجال الدين من الغربيين، نظراً لبحث الأجانب عن مؤسسة تعليمية جادة تعتمد الفصحى. كما عانى تدريس «العربية» للناطقين بغيرها في سوريا، في العقد الأخير، من أوضاع الحرب، ممّا حال دون التحاق الراغبين في تعلم «العربية» بدمشق، وهو ما مثّل خسارة فادحة للدراسات العربية في الغرب، بوصف سوريا محطة تعليمية أساسية في الشرق الأوسط.
ثمة حقيقة بارزة في غمار تطرقنا لموضوع «العربية» على نطاق عالمي، وهي تزامن تزايد الطلب على تعلّم اللغة العربية في العالم مع تنوّع متعلّمي «العربية» واختلاف مقاصدهم. إذ يدرك قليلون في الداخل العربي أنَّ «العربية» خارج بلاد العرب، قد تحرّرت من أسْرِ المستشرِقين والمستعرِبين، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهي خطوة مهمة وإيجابية على طريق انتشار لغة الضاد. فلطالما مثّل كثير من القائمين على تدريس «العربية» في الغرب، في الجامعات والمراكز التعليمية، عبئاً على «العربية» بما أشاعوه بشأنها من أحكام قاسية أقلّها: «العربية» صعبة، «العربية» ميؤوس من إتقانها، «العربية» وَرَثَتها اللهجات المحلية... إذ يروّج العديد من المستعرِبين والجامعيين الغربيين أنّ العربية عصية، بما يثبط من عزائم المتعلِّمين الجدد. كنت أُشفق في مستهلّ التحاقي بـ «جامعة الأورينتالي» في نابولي، أواخر الألفية الثانية، على طلاب إيطاليين مبتدئين كان يَرمي بهم أساتذتهم في «جحيم» المعلّقات، والشعر الجاهلي، ومقامات الحريري، بدعوى الاطلاع على منابع «العربية»، والتدرّب على اللغة النقية، ويستعملون معهم أساليب بالية لتيسير النطق بحفظ قوالب عن ظهر قلب وترديدها على غرار: «يُغرغِر الغِرغِر غرغرة الغرور» و«خيطُ حريرٍ على حائطِ خليلٍ»، و«قُمْ يَا مُتَقَمْقِم، قُمْ فتَقَمْقَمْ، قُم قَمْقِم قَمْحاتِكَ» وما شابهها من أساليب الاستشراق البالية في تعلّم «العربية»، وهي بالأحرى مدعاة لتنفير المبتدئين.
فقد ابتُليت «العربية» في الجامعات الغربية بمستشرقين يدرِّسون العربية ولا يتكلّمونها (على طريقة تدريس اللغات الميتة) ويسمعونها ولا يفقهونها، حيث يُدرَّسُ  النحو العربي ويُشرَح للطلاب بالإيطالية والفرنسية والإسبانية. ولذلك تزخر إيطاليا -على سبيل المثال- بأقسام الدراسات العربية، ولا تخلو جامعاتها العريقة من أقسام تدريس اللغة والآداب العربية غير أنك لا تظفر بمتحدّث إيطالي قدير أو مقبول بـ«العربية»، في صفوف الأساتذة والباحثين. وترى الكثير من المستعرِبين والخبراء في الشأن الإسلامي والعربي في الساحة الإعلامية، ولكن يعوز جلّهم الإلمام بـ«العربية» كتابة ومحادثة.
صحيح تهفو قلوب كثيرين إلى تحويل العربية إلى لغة رائجة على نطاق عالمي، على غرار اللغات الحيّة، بَيْد أنّ ذلك الهدف يتطلّب جرأة وقدرة على شقّ  قنوات إلى ذلك، وبالمثل إلماماً بما يجري من تحولات في مجال تزايد الطلب على «العربية». ربما نظرة خاطفة على تزايد أعداد الطلاب في الجامعات الغربية دليل بارز على هذا التحول الإيجابي. ففي عالم اليوم، ثمة حاجة ماسة إلى إنشاء مؤسسة تعليمية للعربية تعمل ضمن استراتيجية موحّدة، وعلى كفاءة عالية تضاهي المؤسسات العالمية، تكون موجّهة إلى العالم المتحرّك وحاضرة في كبريات العواصم الغربية والشرقية، وهذا ليس بالأمر العزيز.
غالباً ما ننظر إلى «العربية» كمسألة لغوية محلّية، وكمادة للاستهلاك الداخلي، ونطرح مجمل قضاياها ضمن أوضاع الواقع العربي وتحدياته، والحال أنّ «العربية» فيها من مقومات العالمية الكثير، وهو ما ينبغي الاشتغال عليه وإيلاؤه الاهتمام اللازم.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©