الإثنين 6 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

صوفية الحرف عند نجا المهداوي

صوفية الحرف عند نجا المهداوي
28 يناير 2021 00:20

د. حورية الظل

يعد الفنان التونسي نجا المهداوي (من مواليد 1937) من الفنانين التشكيليين الذين اعتمدوا تجريد الحرف في أعمالهم، فهو يوظف أشكال كلمات ملتبسة جردت من خصائصها المعنوية وأفرغت من الدلالة، وإن كانت تبدو على شكل الحروف المتوارثة كالثلث والكوفي والديواني، لكنها مجردة من كل معنى، ولا تشكل حرفاً أو كلمة أو جملة، فالنقطة المركزية لاهتمامه هي العلامة الخطية، فهي المنطلق لبناء عمله التشكيلي، لكنها تتبلور وتتشكل محافظة على شكل انسيابية الحرف دون القدرة على قراءته، إنه تعامل مع الحرف كمادة خام في تشكيل اللوحة لكن مع الحفاظ على روحه وقداسته.

إعادة تشكيل الحرف
يقوم المهداوي بإعادة ترتيب شكل الحرف، فيكسره ويشذره ثم يعيد بناءه وفقاً لرؤيته، فيشتغل على السمك والليونة والتناغم والتوافق، مع الحفاظ على رشاقة الشكل، والإخلاص له مع الانزياح به إلى تدفق في الخطوط التي يعمل من خلالها على إعادة تشكيل هذا الحرف، لكنه لم يسيء له وإنما استطاع الحفاظ على قوانينه الدقيقة وعلى جوهره، والحرف عنده حسب عبد الكبير الخطيبي: «تتم إعادة تأليفه بعد تفتيته».
ويُعد الحرف عند المهداوي هو الأساس الذي يقوم عليه العمل الفني، وقد عبر عن ذلك بقوله: «الحرف سلطان، وأي شيء في أعمالي حول الحرف هو لثقافة معينة، ولذلك كل ما نراه ويشاهده الزائرون من زخارف وتشكيل يأتي لخدمة الحرف، فله الكلمة والسلطنة في أعمالي، وهو ما أطلق عليه الجانب الروحاني في الحرف».
وقد استطاع المهداوي أن يضفي أسلوبه الخاص وبصمته المميزة على منجزه البصري، وحسب إياد الحسيني، فقد استثمر الأبعاد الجمالية للحرف وجعل المتلقي يؤخذ: «بعاطفة ذلك الجهد الخلاق الذي يبدله الخطاط في النسخ والتكرار... ليجعل من السطور والكلمات قيما تكتنز بينها الكثير من الدلالات البصرية، فهي تارة دقيقة وأخرى سميكة، يطغى السواد على كتلها وحركاتها وإيقاعها».

انسيابية الحرف
ارتقى المهداوي بالحرف إلى مدارج عليا، حيث كشف جماليته من خلال أهم مميزاته، وهي الانسيابية، لكن مع تغييب المعنى اللغوي، فعمق بذلك حمولات الحرف الجمالية وغاص به في روحانية صوفية، فانخرط من خلاله في تجربة روحية فريدة. إنه نوع من التصوف، حيث التحرر من قيود اللغة والحفاظ على جوهرها، والغوص في ما وراء أشكالها الظاهرة.
ويحدد نجا المهداوي منهجه الفني والجمالي في تعامله مع الخط في منجزه البصري في حوار أجري معه بقوله: «إن قراري في استخدام أجزاء من الحروف أو الرموز في أعمالي ينبع من رفضي العفوي لتجليات الحروف، في فن الخط تكتسب الحروف المكتوبة مكانة رمزية إلى أن تصبح حاملة لمعنى ما. ولكن حين تفقد الحروف تحديداتها الخارجية يصبح القارئ مضطراً للجوء إلى خياله ليتمكن من فك الرموز لبلوغ المعنى الكامن في الكلمة». 
لقد حقق نجا المهداوي، من خلال رؤيته الفنية والفكرية إمتاعاً بصرياً يرتقي بالمتلقي إلى عوالم المطلق ليشركه تبعاً لذلك في التجربة، فلا يتشتت انتباهه في محاولة تفكيك المعنى، وإنما يمكنه من تجربة بصرية تغوص به في عمق العمل الفني، فيندمج بذلك في عوالم روحية حسب إيمي أسعد، لأن: «الفن يجب أن يحتفظ بقدر من الغموض لنفسه حتى يفرض على المشاهد طرح الأسئلة».
فطريقة تشكيل العلامة الخطية عند المهداوي، تحافظ على جمالية الحرف وتوليفاته وتركيباته، لكن مع تدمير كل اقتراب من الدلالة أو المعنى ليؤسس عالماً روحياً من الجمال القائم على انسيابية الخطوط وكذا انحناءاتها والتواءاتها وتشابكها وتواشجها، فيحتفي من خلال ذلك بملء الفراغ، وهي خصيصة تميز بها الفنان المسلم، وقد أكدت ذلك إيناس حسني بقولها: «يرى في الفراغ، سواء السطوح الممتدة أو المتشكلة، مساحة مهدرة وقيمة غير مستغلة جماليا ويشغلها بزخارف فنية يكون قد حقق فائدة جمالية ولم يهدر تلك المساحات». 
ومن ثم فقد جمع المهداوي بين السيطرة على الحيز وحركة الحرف فشغل السطوح التي اشتغل عليها، فتحققت حركية في أعماله نتيجة طرق تشكيله للحرف، وذلك ضمن رؤيته الجمالية، فاستثمر جماليات هذا الحرف المتاحة، وأيضاً حرره من القواعد والمعنى ومكنه من التطور المستمر ضمن أسلوب تجريدي ورؤية فنية تعتنق الروحي، فاستشرف بذلك كونية العلامة الخطية، فهو ينطلق من التراث والثقافة الإسلاميتين ليفتن الآخر الذي هو الغرب، حيث تمكنت لوحات نجا مهداوي وأعماله بصفة عامة أن تحقق إقبالاً عالمياً.

التداخل بين اللون والأشكال الهندسية
تحقيقاً لخصوصية أعماله وتطلعاً منه لتحقيق التنويع في تجربته عمل المهداوي على إفساح المجال للمساحات اللونية والأشكال الهندسية المستوحاة من الفنون الإسلامية، فشغل بها حيز المسطحات التي اشتغل عليها في بعض أعماله لتثري حضور الحرف، حيث لم يقتصر على ملء الفراغ بأشكال هذا الحرف فقط، وإنما وظف التداخل بين اللون والأشكال الهندسية وكذا الزخرفة بشكل الحرف، والمزاوجة عنده بين اللون والحرف استثمرها لإثراء هذا الأخير، حيث وظف إمكانياته الجمالية في عمله الفني، فجعل كل المتلقين بمختلف مشاربهم وجنسياتهم يتعاملون مع الحرف باعتباره شكلاً جمالياً مجرداً، واختياره هذا يعلي من قيمة الحرف الفنية والجمالية، ويثبت هويته، وفي نفس الوقت يجعله ينفتح على الكونية، فنجد عنده صرامة في التقطيع الهندسي للخط، فهو كما عبر عن ذلك محمد النبهان يشكله: «أفقياً وعرضياً وفي زوايا هندسية تعبئ الفراغات بكتابة بكماء، يرجع فيها إلى أساس الزخرفة العربية التي اعتمدت على تكرار الخطوط وهندستها في دوائر ومربعات تتناسل الحروف فيها».
والمهداوي مستوعب للحركات الفنية الغربية الحديثة، مع تشبعه بالثقافة العربية والإسلامية، الشيء الذي مكن أعماله الفنية من تحقيق كونيتها، إنها طريقة تعمد إلى تجريد الحرف من معناه عبر استثمار شكل الحرف، وكذا الخطوط والرموز المستمدة من الموروث التراثي، والمهداوي من خلال ربطه لعلاقة فنية بين الخط واللون والمساحة، راهن على تحقيق خصوصية تجربته حيث عولمة المنجز البصري، عبر تحويله إلى طقس روحي، وتحقيق هوية الاختلاف عن الفن الغربي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©