الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الأنثروبولوجي مارك أوجيه: ينبغي أن نُحْسِن النسيان كي لا نفْنى!

الأنثروبولوجي مارك أوجيه: ينبغي أن نُحْسِن النسيان كي لا نفْنى!
10 ديسمبر 2020 01:40

ترجمة وإعداد: عزالدين عناية

عادة ما يتمّ الرَبطُ بين انشغالات الأنثروبولوجيا والحضارات السائرة في طريق الانقراض والشعوب القديمة. وهو ما يتعلّق أساساً بمجتمعات موغلة في القِدم، أو بأوساط اجتماعية بريّة واقعة في أصقاع نائية، بعيداً عن مظاهر التحضّر والتمدّن. ويجري التغافل، عمداً أو سهواً، عن سكان العوالم الحضرية والمدن الكوسموبوليتية. ولذلك قلَّ الحديث في حقل الأنثروبولوجيا التقليدية عن الغرب وشعوبه، أو عن إدراج أوضاعه ضمن مواضيع الدراسة والبحث. حتى باتت الأنثروبولوجيا مرادفة لدراسة الحضارات القديمة والإنسان البرّي في الاستعمال المتداوَل. وقد تطلّب إصلاح تلك التمثلات مراجعات في المنهج، قصد الخروج من تلك التصورات الخاطئة التي طبعت طوراً مهماً من تاريخ الدراسات الإناسية، وذلك بالدعوة إلى مغادرة المكتب والالتحاق بالأوساط المعنية بالدراسة.
وقد كان الأنثروبولوجي جيمس كليفورد من أبرز المنتقِدين للأنثروبولوجيا المكتبية التي تُنتَج عن بعد، داخل الصالونات والمكاتب، ولا يتجشّم أصحابها عناء التحوّل على عين المكان، بقصد المتابعة والمعايشة والرصد، بقوله: «إذا كنّا نريد صياغة حقائق على هوانا فالأحرى ألّا نبحث ونمكث في البيت». وقد ذهب عالم الإناسة إدوارد.إ إيفنز برتشارد بعيداً في ذلك التصحيح، معتبِراً أنّ مقاييس النجاح والفشل للباحث الأنثروبولوجي، من حيث العجز أو القدرة على التواصل مع أهالي الفضاء المدروس تتحدّد على النحو التالي: «إذا جاء يوم الرحيل، وحانت ساعة الوداع ولم يخيّم على الأهالي وعلى الناس جوّ من الحزن، كان بوسعنا أن نقول إنّ الباحث الأنثروبولوجي قد فشل في مهمّته».

  • مارك أوجيه
    مارك أوجيه

ومع الأنثروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه شهد البحث الأنثروبولوجي تحوّلاً جذرياً على مستوى جغرافية البحث. فما عاد البحث منشغلاً بأقاصي المعمورة، بـ «الأبوريجان» و«الإنديجان» و«الأوتوكتون»، أي بالبدائي والبرّي وبالمجتمعات الراكدة، كما دأبت الدراسات التقليدية على ذلك؛ بل بات البحث منشغلاً بسكان باريس وروما ولندن وفرانكفورت، بالمتخَمين بالتحضّر والتمدّن والواقعين رهن الآلة. بات الباحث الأنثروبولوجي منشغلاً بحقله الحداثي، المتمحور حول المترو في باريس، وحول مدينة ديزني لاند للألعاب، وحول طقس امتطاء الدراجة الهوائية في الأوساط الحضرية. وهي تقريباً المواضيع التي عالجها الأنثروبولوجي مارك أوجيه باقتدار في مؤلفاته: «في المترو» (1986)، وفي «زيارة ثانية للمترو» (2008)، وفي «ديزني لاند ولا أماكن أخرى» (1997)، وكذلك «في مديح الدراجة» (2009)، وفي «يوميات شريد في المدينة» (2011)، وأيضاً «الأنثروبولوجي والعالم المعولَم» (2013).
وضمن هذا التحوير الذي طال انشغالات الأنثروبولوجيا، نتابع هذا الحوار الذي أُجري مع الأنثروبولوجي مارك أوجيه، والمنشور في «مجلة إكساجار» الإيطالية، عدد نوفمبر 2020.
* ما الذي يعنيه الحديث عن الذاكرة بالنسبة إلى عالِمِ الإناسة في الوقت الراهن؟
** الحديث عن الذاكرة بالنسبة إلى عالِم الإناسة هو بمثابة الدخول إلى عوالم لم يطوِها النسيان. إذ يمكن، من جانب عالِم السلالات (الإثنولوجيا)، الانشغال بمفهوم الزمن لدى شعب معيّن، وتحليل مختلف أشكال علاقته بالماضي. فلهذه النقطة قيمة استراتيجية. إذ هناك مجتمعات لديها بعض اللحظات التي ينبغي نسيانها، في مقابل أخرى، ينبغي استلهامها وتذكّرها بإلحاح. وعلى سبيل المثال، ثمة اهتمام دائم بتذكّر الأحلام الخاصة، لأنّ مضامين الحلم يمكن أن تكون تبشيراً أو نذيراً بحدوث أمر ما؛ في حين ينبغي نسيان حالات التملّك، لأنّ كائناً آخر يُفتَرض احتجازه الجسد وتملّكه.
* هل الصواب أن نتطرّق إلى الذاكرة بالجمع أم بالمفرد؟
** في ما يتعلّق بالبشر يجدر الحديث عن الذاكرات لا عن الذاكرة. فمن التجربة اليومية، نعرف أنّ وقوع حدثٍ ما يمكن أن يخلّف انطباعات متباينة، فكلّ امرئ يمكن أن يحتفظ عنه بذكرى مغايرة. نعرف كذلك أنّ الذاكرة تتغيّر مع السنّ وتقدّم العمر. فالنسيان الذي يحوّرُ الذاكرة هو شيء ضروريّ: وما العمل في فرز الكمّ الهائل من الأحداث التي تعجز الذاكرة الواحدة عن الاحتفاظ بها وتخزينها سوى إسهام في تعدّد الذاكرات.
* يبدو أن التذكّر والنسيان يشكّلان ثنائية عميقة لهويتنا. فهما آليتان تتميز كلّ منهما بالبساطة والتعقيد، كيف تفسّرون ذلك؟
** بالفعل هما زوج من الخاصيات غير قابل للانفصال. ومن هذا الباب يمكن تعريف المرء والنظر إليه بما يتذكّره وبما ينساه. وبالتالي ينبغي أن نُحسِن النسيان كي نحافظ على وجودنا، وينبغي أن نحسن النسيان كي لا نفْنى، وينبغي أن نحسن النسيان كي نظلّ أوفياء.
* ما هي الجدوى من الماضي، أو بعبارة أخرى، كما تذهبون إلى ذلك في كتاب «أشكال النسيان»، ما هو السبيل للعثور على الماضي المنسيّ؟
** ينبغي أن نعيَ أنّ الماضي هو ماضٍ. بمعنى أن نميّز كيف تُنحَت شخصية الفرد وتُبْنى في تواصلها مع المغايَرة. فالفرد تنمو شخصيته عبر علاقة بالماضي، بحسب التربية التي يتلقاها والتي يستدعيها أو يتّخذ منها مسافة. وعلى المستوى الجماعي، تكون العلاقة بالماضي أكثر تعقّداً، لأنّ الشعب مكوَّنٌ من عدد هائل من الأفراد. ومفهوم الديمقراطية يقتضي علاقة مع ماضٍ جماعيّ ثم يقع المرور إلى الحكم على ذلك الماضي بالصواب أو الخطأ، بالقبول أو الرفض، سواء كان بشكل جزئي أو كلّي.
* كيف السبيل إلى الجمع بين الثلاثي: الحاضر والماضي والمستقبل؟
** يقضي المرء سني عمره وهو يمارس أو يعتقد أنه يمارس هذه الأبعاد الثلاثة، وهو ما يسمى العيش والحياة. ولكنّ الأمر يتعلّق دائماً بالماضي القريب أو بالمستقبل القريب. في بعض الحالات النادرة يتسنى للفرد تحقيق التوازن في مساره، ولكن ذلك يعود بالأساس إلى المستقبل القريب.
* هل ستكون الذاكرة في المستقبل حكراً وحقلاً خاصاً بعلوم الأعصاب لا غير؟
** الذاكرة هي بالفعل موضوع من مواضيع علوم الأعصاب، وهذا لا يمنع أن تكون موضوعاً أثيراً للإبداع الأدبي وللمعاينة الأنثروبولوجية. أنا أُؤمن بوحدة المعارف.

  • غلاف «أشكال النسيان» (من المصدر)
    غلاف «أشكال النسيان» (من المصدر)

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©