الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

فن الإنسان العاديّ

فن الإنسان العاديّ
26 نوفمبر 2020 01:42

إن كان كلّ معنى يوميّ هو ترفٌ يتلاشى في ذاته الفنيّة، فكيف تُحافظُ الفنُون على قوامها حين تتعالى بعُزلتها؟ وهل صحيح إذا صحّ القول ألاّ فنّ بلا إنسان، فينبغي القول كذلك ألاّ إنسان بلا فن، كما اشترط هويغ رينيه؟ ألم تُستمَد فُنون الإيقاع في الموسيقا والشِّعر والرّقص من المرأة التي كانت تؤدّي أعمالاً تتصف بتناسق إيقاعي كالغزل والعجن والطحن؟

هُنالك دائماً شعرة بين أدوار الفعل ووقعِها؛ إذ يُمكّنها هذا التّقارب من الوقوُع في سوء التمعّن، يمكنك أن تجلس وحيداً في مقهى، وهذا لا يعني أنَّك وحيدٌ في المقهى، أنت وحيدٌ على الطّاولة، وحتى هذا لا يعني أنّك وحيد على الطّاولة؛ إذا رجّحنا أنّك تنتظر أحداً، الأمر الذّي يفصل ذائقتنا عن ترف العُزلة كانفراد وخصمها كانقطاع، وعن مطبّات الرّكود والتناسخ التّي يتلاشى فيها الفنّ ومن ثمّة يتوعّك، فالفنون تمرض حين لا يعُود في إمكانها الإقدام على نشاطها والمُحافظة على سلامة اختلافها ونموّها المُتشعِّب في الذّائقة، فما الذّي يختبره التذّوق إن كان يجرّب الفم كلّ يوم الطّبق ذاته بالطّريقة ذاتها، الفكرة لا تعني الطّبق في حدّ ذاته، بل طريقة تحضيره التّي تجعل منه مختلفاً بتلك الإضافات الجديدة التّي تختبرها في كلّ مرّة من باب المُغامرة لا المغادرة، كذلك المصادر في الفنون رغم أنّها ثابتة، فإنّ نظرتنا هي ما يغيّر منظرها، وهنا تتبدّى عبقريّة الإنسان في صناعة الأشياء الجديدة ممّا هو قديم ومعروف سلفاً، للدّرجة التّي تجعلك تنسى أنّه مرّ بكَ يوماً وأنّك متعوّد عليه.
فأين يذهبُ النّاس العاديّون فيكَ حين يجعلُون منكَ غير عادي بانتباهك دون أن ينتبهوا لذلكَ؟
يُصبحون غير مرئيّين أو نُصبح نحن عمياناً، وبذلك نفقدُ تلك الصِّلة الفنيّة التّي نغذّيها بتحويلها إلى شأن فنيّ، وتغذّينا بتحريكنا داخل المشاهد التّي تنساب بين دورة حياة وأخرى، النّاس الذّين يستقرّون كحجر معلومٍ ألُقيَ داخل بركة الثّقة المستمدة من إيماننا بالفهم الأكيد لمُتطلّبات ابتكار الظُّروف ونسج الصُّور واهتزاز الأصوات، وحيثُ نتباهى بعزلتنا عنهم، نكُون قد أسهمنا في انكماش عضلةِ الفنّ فينا، ورصصنا طبقاتنا الفنيّة وخلقنا جبهة مُتعالية تنظر من فوق وتُسمّي هذه الفُنون بأبطالها بدل الذّوبان في طِباعهم، فنّ الإنسان البسيط الذّي تتلاشى الحياة فيه ويتلاشى هو بدوره داخل تداولِها، بينما يبني الفنَّانون عزلتهم بتحويل المادّة الخام إلى مصدر إزعاج.

لوحة النَّافذة
يقول هربرت ماركوزه: إنّ الفكر الذّي لا يتطور يتعفّن، وكذا الفنّ، ففي رواية «النفق» لأرنستو ساباتو يصوّر لنا هذا الكاتب المُدهش الصّلة الفنّية التّي ارتبط بها البطل خوان بابلو كاستيل وماريا ايريبارني عن طريق لوحة النَّافذة التّي كانت تعنِي له القدر الذّي عنت لها، لوحة تبحثُ عن أشباهها، هذا ما ستؤكّده البطلة ماريا في آخر الرّواية وهما على الصّخور قبالة البحر: «يبدو لي أحياناً، كأنمّا كنّا دائماً نعيشُ هذا المشهد سويّة، عندما وقع نظري على تلكَ المرأة المُعتزلة في نافذتك، أحسست أنّك مثلي تبحث بصورة عشوائية عن أحد ما».
فلماذا تتحوّل العزلة عند البعض إلى شبه اعتزال؟

عبث المألوف
إن الفنّ قبل أن يكُون أداة تنبيه جمالية، كان إنساناً جاء لتتفنَّن في مشاغبتِه الحياة، هو غايتُها كما حاول أندريه جيد توضِيح الأمر، ولكن هذا لا يَمنع مِن التعثّر، فأرنست فيشر الذّي يُعلِمنا أنّ عمر الفنّ يوُشك أن يكون هو عمر الإنسان، يعي مقدار الهفوات التّي يُجرّ إليها هؤلاء عن دراية لم تتطلَّب غالباً تلك النتائج التّي ستقُودهم إليها، ما استدعاه لتوظيف الفعل «يوشك»، فالوقُوع المُتعمِّد في الشيّء يستندُ إلى عدم مراعاة المسافة الأولى التّي تقطعها لتصل إليه! الأمور تبدّل إحداثياتها، وعليكَ أن تكون متفطناً دائماً لمثل هذه الأرضيات الزئبقيّة، يحتاجُ الثبات أمام المرغوب دوام الحركيّة، كما تحتاجُ الحركيّة إلى موضوع ثابت للاّرغبة داخل عبث المألوف الذّي يتشكّل بديناميكية مزيَّفة، حيث تُصبح كل الشَّخصيات مُتشابهة وكلّ المنتجات مترادفة وكلّ الكلمات مُنطبقة. ويقدّم لنا إنسان القرى الإلكترونيّة أكبر مثال على دخُوله معركة المُتحرّك المتوهِّم، حيث تتناسخ فيه الأفكار، ويتشابهُ المصير، ويُصبح كلّ زاد فنّي أعيد تدويره بالمعايير ذاتها، حتّى لتشعر أنّ الحياة الفنيّة متوقفة منذ نصّ ما، أو لوحة ما، أو قصيدة ما، أو عمل ما، ولعلّ أحد شخصيات فيلم The Social Network Movie كان صادقاً حين قال: «عشنا في المزارع، ثم عشنا في المدن، والآن نحن ذاهبون للعيش على الإنترنت»، أتراها رديفة لفكرة البعث «الرجال على صورة يوسف والنساء على صورة حواء»؟ ربّما.
حتّى لو دُمّرت التماثيل واللّوحات المُهمّة، فإن قوّة التّدمير لا تستطيع أن تُدمّر الأثر الذّي تركته هذه التُّحف الفنيّة في العالم والنَّاس، فالمدافع تستطيع أن تدمّر، ولكن هل تستطيع أن تُبدع؟».

سر الكتابة
هكذا يتفنّن  هنري ميللر في إلقاء قنابله الإبداعيّة علينا مُدافعاً عن الفُنون التّي لا تُدمّر في عمله «كابُوس المُكيِّف الهوائيّ»، تلكَ التّي تنصرفُ الحياة لتبجيلها وكأنّما تختصر جديتها في هؤلاء الذّين لم يأخذوها على محمل الجدّ، وعلينا أن نقيس مدى اهتزاز الإنسان المُصاب بتدوير القنابل وكشف عُمق الخرابات، فن الإنسان العاديّ الذّي يؤكّد أنّ الحياة لا تزال تحتفظ بجودتها، هؤلاء الذّين لا يملكون الوقت أو الثمّن لقراءة أو مُشاهدة أنفسهم وهم يتحولّون إلى عبرة لمن فقد الاعتبار وهو يخُوض معابره ظنَّا منه أنّه هامشيّ، الذين يرون في كتابة رسالة أو أداء أغنية ولو بصوت بشع شأناً مهماً، أبطال لم ينتبهوا لبطولاتهم لأنّ ذلك لم يكن من مهامهِم ولأنّهم لا يرون في ذلك أيّة بطولة، إنّهم الفن الحقيقي الذّي يجعل المُلتقط له في سيرورة دائِمة للتجّدد والاندهاش ومن ثمّة الإدهاش، ففي «سر الكتابة» يلقي أورهان باموق الضوء قائلاً: «علّمتني أربعون سنة من التفاني تجاه فن الرواية أمراً واحداً، هو أن أنتبه إلى حيوات البشر وما نسمعه عنها، فهذه الرواية، أي «غرابة في عقلي» مبنية على مقابلاتٍ أجريتها مع العديد من الناس، والتّي تعلمت منها أن أكون متواضعاً تجاه حياتهم وألعب بتفاصيلها إلى أن تغدُو حقيقية أكثر من الواقع»، فحين يكفّ أي فنّان عن الانخراط في العاديّ يسقط داخل الجديّة المزيّفة، لأنّ أكثر الفُنون تعبيراً، هي تلك التّي مارسها إنسانٌ لا مُبالٍ، الأمر الذّي يتقارب جداً مع قواعد الفنون الساذجة، الذّي يعبّر عن ذاته دون خلفية أكاديمية مثل روسو والتشكيلية الجزائرية باية. أماّ رواية الكاتب التشيلي إيرنان ريبيرا لتيلير «رواية الأفلام» فتقدّم لنا درساً بالغ العفويّة، عن الفتاة الصّغيرة «ماريا مرغريتا» التّي دفعها عوز والدها المشلول للتحوّل إلى قاصّة، فتذهب يومياً إلى السّينما وتعود لتروي للأسرة مجدداً الفيلم بعفويتها، لتستقطب بعدها كل الحيّ للإصغاء إليها، فتحصد جرّاءه الشُّهرة والمال، فالبساطة التّي ينبغي أن يُتعامل بها مع الفن تحميكَ من خسارة ماريا خاصتك، وتقوّي ذلك الشعور الذي يجعلك في تواصل مع أناس بسطاء بدل تحوّلهم فيك إلى آليين.
فهل يمكننا الآن فهم الجواب المتعلّق بأدباء ورسامين وغيرهم شاركوا حياتهم أشخاصاً أكثر عاديّة؟ ربما.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©