الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

المتاحف في زمن مُلتبس

المتاحف في زمن مُلتبس
26 نوفمبر 2020 01:43

عَبرَ الاحتفال بالذكرى الثالثة لافتتاح متحف اللوفر في أبوظبي بشكل هادئ هذا العام، كالكثير من المناسبات التي اختُصرت، أو ألغيت، أو قُدمت بطريقة افتراضية بسبب سطوة جائحة كورونا وآثارها التي أجبرت المؤسسات على الالتزام بالتباعد الاجتماعي. ولولا ملتقى «المتاحف في إطار جديد» الذي تم تنظيمه مؤخراً، بالتعاون مع جامعة نيويورك، لما طُرحِ موضوع مستقبل المتاحف بتلك الغزارة، وذلك العمق الذي شهدناه من خلال المناقشات والأطروحات النقدية التي استضافها الملتقى الافتراضي. ما هو الشكل الذي ستكون عليه المتاحف في المستقبل، أو كيف ستُصاغ المتاحف الراهنة؟ كان ذلك هو المحور الرئيسي تقريباً الذي دار حوله الجدل.

من الطبيعي أننا لكي نبني صورة ذهنية عن المتاحف في المستقبل، فإننا بشكل تلقائي نستحضر تجاربنا الشخصية مع المتاحف في الماضي، وتلك التي استطاعت أن تصمد حتى وقتنا الحاضر أمام جميع التحديات، والتي لاشك في أن لها الفضل إلى جانب التعليم في تشكيل معارفنا ورؤانا حول تاريخ تطور الإنسان وأنشطته وأدواته وثوراته وفنونه. 
لا يمكن أن يختلف اثنان على حقيقة أن المتاحف الجيدة يمكن أن تكون بمثابة مؤسسات تعليمية ذات طابع حضاري وثقافي راق وتأثير لا نظير له. وأن المتاحف التي تم تطويرُها حتى هذه اللحظة قد ساهمت سلفاً في تعميق رؤانا حول التاريخ والإنسان والكون والفن، وقدمت لنا نماذج مؤثرة في شتى المواضيع. 
ولكن في منطقتنا بالذات، فإننا أمام قضية أكثر تعقيداً، وهي عدم وجود ثقافة مجتمعية لزيارة المتاحف وإن وُجدت، فهي بين فئة محدودة. وحتى ضمن هذه الفئة هناك شريحة لا تزال ترى في الآثار والتماثيل حجارة، وفي التوابيت قبوراً، وفي اللوحات قطعاً للديكور، وإذا كان المعروض فناً حديثاً تراه خربشات، وبالمناسبة، هذه الشريحة هي من المتعلمين أيضاً، ولكن ممن لديهم أذواق وقناعات مختلفة وربما هم بحاجة إلى محتوى يعكس اهتماماتهم. 
وقبل تأسيس العلاقة وتجذيرها بالمتاحف، أطلت علينا تحديات قسرية لها علاقة بتقبّل التجربة الافتراضية أيضاً. 
على الصعيد الشخصي، لم أتمكن من الشعور بالاكتفاء أبداً بهذه التجربة. وقد ألّفتُ لنفسي نظريتين، نظرية الذهاب للمتحف من أجل المعرفة، ونظرية الذهاب من أجل التجربة. 
ولأن المتاحف التاريخية كانت ترهقني، فقد شعرتُ بأنني يمكن أن أتقبل زيارة المتاحف التاريخية بشكل افتراضي. ولكن ماذا عن الفنون؟
لقد تعلمتُ الكثير عن الأعمال الفنية من خلال المتاحف التي قدمَتها والعكس صحيح. 
يعنيني كثيراً أن أقف أمام العمل لأشعر بقامته. كيف يمكنكَ أن تشعر بهيبة عنكبوتة لويز بورجوا، على سبيل المثال، إن لم تقف بمحاذاتها وتسِر حولها؟ 
إن تجربة الوقوف أمام العمل الفني بشكل مادي، دون محاذير التباعد الاجتماعي التي يكثر الحديث عنها في وقتنا الراهن، هي غاية في الأهمية من وجهة نظري. 
هذه التجربة بالذات، تجربة الاقتراب من الأعمال والإحساس بها والتقاطع معها كما صنعَهَا مبدعوها لا تُعوَّضْ أبداً، ولا تُشبه أي تجربة أخرى. إنها تتسرب إلى وعينا ودواخلنا عن طريق مداركنا الحسية، وتأخذ حيزاً من تركيبة مفهومنا عن الفن وجزئياته ومواصفاته وأسلوبه، ثم تحتلنا فنتحول من مجرد مشاهدين للأعمال الفنية إلى وسائل إعلان لها ومحامين عنها إذا ما تعرضت للنقد أمامنا.
التجارب الشخصية تجعلنا ننمو بشكل مختلف، ونحن بحاجة للتكرار لنُنمي مفاهيمنا الجمالية وذائقتنا. فهل يمكن أن تكون افتراضية وفاعلة في آن؟
إن مفاهيمَنا تحتاج إلى زمنها الخاص وإلى البرمجة لتتبلور، ولكي تتبلور لابد وأن تمر عبر فلاتر وتجارب مختلفة مادية ومعنوية، ذهنية وحسية.
كثُر الحديث في ملتقى «المتاحف بإطار جديد» عن المقتنيات، وعن السرد أو الحكايات التي يُمكن أن تحول التجربة من عامة إلى خاصة. وهذه الجزئية مهمة لأنها يمكن أن تُغير نظرتنا عن الآثار والمقتنيات والأعمال، وتمنحنا حكايات تخصنا معها. 
وبمناسبة الحديث عن السرد، فإن الكثيرين يتناسون أنه مرتبط باللغة. إن اللغة هي عامل التواصل وهي إنسانية وشخصية من جهة، وأممية من جهة ثانية. والمتاحف اختارت لغات أممية محددة، وأهملت لغات أخرى ومنها اللغة العربية على سبيل المثال، وتسببت في توسيع المسافة الثقافية بين الناس. لأن الذي يجيد اللغات المتوفرة في المتاحف لديه فرصة أكبر للاطلاع على محتوى تلك المتاحف بشكل أعمق وأكثر متعة، وهذا يُساهم في تنمية ثقافته ومعارفه، على عكس الزوار الذين لا يُجيدون هذه اللغات. 
ولهذا، فإن على المتاحف الجديدة التصدي لمثل هذه الاحتياجات، والعمل على تقليص الفجوات الثقافية بين الناس وعلى تغيير العقلية القديمة عن المقتنيات المتحفية وعن الفن، العقلية التي ما فتئت تعتبر الآثار أحجاراً والفن زخرفياً أو غير مفهوم. فإذا كانت الآثار تنتمي إلى التاريخ الإنساني، فإن الفن هو الآخر شكل من أشكال توثيق أنشطة الفنانين وطريقة تعبيرهم عن قضايا وانشغالات أزمنتهم، ومعتقداتهم، ومقارباتهم الجمالية، وهو الشفرة التي يمكن أن تتناقلها الأجيال بأشكال مختلفة. وربما بوسع المتاحف الجيدة فقط أن تستطيع ابتكار طريقة فكها. 
لا نتمنى أن تسرق التكنولوجيا الروح الأصيلة للمتاحف، ولا أن تبني بيننا وبين الأعمال الفنية والمقتنيات حواجز افتراضية. والمتاحف يجب أن تكون مُتجاوِزة للأشكال النمطية، سواء في تصاميمها المعمارية، أو فيما يتعلق بعرض الأعمال الفنية والآثار، أو حتى في ابتكار موضوعات تهم الناس. 
سيكون من المفيد أن تعمل المؤسسات مع بعضها بعضاً، ليرتفع سقف الإبداع في طرق ووسائل العرض ونوع المعلومات والموضوعات التي يجب أن تعتني بها المتاحف من جهة، ولدراسة وسائل تشجيع الناس على الالتفات إلى أهميتها وارتيادها من جهة أخرى.
أما سرد المعلومات، فيُفترض أن يكون مدروساً وجذّاباً، بدلاً من أن يكون جافاً ورسمياً. 
أؤمن أننا في كل مرة ندخل فيها متحفاً جديداً، متحفاً صُمم بمحبة وعناية فائقة بمضمونه وغني بخدماته، نكون عُرضة فيه للخراب الجميل، عرضة للهدم الذي يمكن أن يبنينا بشكل أفضل؛ هدم الأفكار النمطية وبناء أفكار مُستنيرة، وكذلك تغيير بعض العادات المجتمعية السائدة لنكون أكثر مُقبلين على الثقافة والفن والمعرفة.
نحن عُرضة لكافة أنواع المعلومات والأفكار والرؤى والاتجاهات من كافة المصادر اليوم. وأصبحنا في زمن على المصادر أن تتقارب فيه، وتعمل في سياقات مشتركة أو مكملة لبعضها بعضاً، دون أن تنسى الجمهور وضرورة الوصول إليه بأي طريقة ممكنة. ومن المهم جداً أن تصبح المتاحف جزءاً أساسياً في حياة شعوبنا، لنكون قد حققنا حلم المشروع الثقافي الذي له صداه وارتداداته في المجتمع، وحتى يكون وجود هذه المؤسسات قد حقق غايته وتمكّن من بناء قاعدة من الزوار الأوفياء لتكتمل منظومة العرض والطلب.
ومن المهم أيضاً أن تتحول هذه المتاحف إلى أماكن للإلهام والمتعة والذكريات التي لا تُنسى لكافة فئات المجتمع.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©