الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أميركا.. الثورة الثقافية الثالثة

أميركا.. الثورة الثقافية الثالثة
19 نوفمبر 2020 00:59

ما الذي يجري مؤخراً في الداخل الأميركي، وهل الأمر مجرد معركة سياسية على منصب الرئاسة، أم أن المشهد يتجاوز ذلك بمراحل؟
خلال رئاسته التي امتدت من عام 1992 وحتى عام 2000، تحدث الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون عن حاجة الولايات المتحدة إلى ما أسماه بـ«ثورة عظيمة ثالثة»، وذلك حتى تثبت البلاد أنها قادرة على البقاء دون ثقافة أوروبية مسيطرة.
والتعبير السابق يقودنا في واقع الأمر إلى عمق الأزمة الأميركية، كما رأينا بعض مظاهرها خلال الأشهر القليلة الماضية، وخاصة حين اشتعل أوراها بعد مقتل الشاب الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد، وامتدت إلى مشهد الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، تلك التي جرت برسم ثقافي بأكثر من الاختيارات السياسية.
والشاهد أن سياقات الأحداث في الداخل الأميركي لم تطفُ على السطح بشكل مفاجئ، إذ كانت هناك مقدمات، بعضها يعود إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، مقدمات جرت بمقاديرها حركة تفكيكية أقرب ما تكون إلى أفكار الفيلسوف الفرنسي الشهير جاك دريدا، وبات أتباع حركة التفكيك الثقافي هم من يقودون الولايات المتحدة الأميركية، وربما هم من سيكتبون خطوط حاضرها، وينسجون خيوط مستقبلها.

بوتقة انصهار.. أم «حساء طماطم»؟
ولعل الاقتراب من أزمة الهوية الأميركية يستدعي طرح علامة استفهام مصيرية في هذه الأيام، حيث يسود الانقسام روح البلاد، ويعمّ التشظي مواطنيها، على غالبية إن لم يكن كل صُعُد الحياة، سياسياً واجتماعياً، ثقافياً، واقتصادياً.
فهل أميركا بوتقة انصهار، أم حساء طماطم، كما جرى العرف في وصف النسيج المجتمعي الأميركي، أم أنها فسيفساء أو صلصة مكونة من شعوب متباينة؟

«واحد من الكثرة»
يبدو أن عالم السياسة الأميركي الراحل «صموئيل هنتنجتون»، كان من أوائل الذين تنبهوا لهذا الإشكال، ولخطره على مستقبل أميركا، وضمّن تلك المخاوف في كتابه الشهير الصادر عام 2006 بعنوان «من نحن؟»، حيث يعود بنا إلى أزمنة الآباء المؤسسين، فرانكلين وجيفرسون وآدامز، الذين اختاروا تعبيراً يعبر عن هوية أميركا الجديدة، وهو E pluribus unum أي «واحد من الكثرة»، والمقصود به أن الأميركيين وإن تعددت أعراقهم وتباينت أجناسهم، فإنهم واحد في انصهارهم في البوتقة الحضارية للأمة.
غير أن هذا التوجه لا يكاد يثبت اليوم، وهذا ما يزعزع أساسات التكوين الأميركي، ذلك أن نشوء وارتقاء الحركة متعددة الثقافات في الداخل الأميركي، عملا على استبدال المجرى الرئيسي للثقافة الإنجليزية البروتستانتية في أميركا بالثقافات الأخرى المرتبطة أساساً بالجماعات العرقية.

الحروب الثقافية
وهذه الحركة التي بدأت في سبعينيات القرن العشرين بشكل خاص، حققت نجاحاً باهراً وتألقت في الثمانينيات من القرن العشرين وأوائل التسعينيات من القرن نفسه، ثم واجهت تحديات من معارضة أثرت في الحروب الثقافية في تسعينيات القرن العشرين.
والثابت أنه حين وضع هنتنجتون كتابه المتقدم في النصف الأول من العقد الأول من القرن الحالي، لم يكن واضحاً بما يكفي ما إذا كانت هذه الثورة الثقافية التفكيكية بين تيارين أميركيين قد نجحت أم لا، وإلى أي حد هذا أو ذاك، والآن وعلى مشارف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وفي ضوء مشاهد الأشهر الماضية، وصراع السباق الانتخابي الأميركي الأخير، قد يكون من المفيد أن نعاود إلقاء النظر، مرة أخرى، على وضع الداخل الأميركي نفسه.
على أن النظر لا يفيد، إن لم يدرك القارئ ما الذي ينادي به أصحاب التعددية الثقافية، الذين يعملون من خلف الستار لتغيير توجهات أميركا اليوم، أو بمعنى أدق الساعين في طريق إضعاف الهوية القومية والعقائدية من جهة، وتقوية الهويات القومية الفرعية العنصرية والإثنية الثقافية وغيرها من جهة أخرى.

معركة الثقافة
وباختصار، تدور معركة الثقافة الأميركية اليوم، بحسب أنصار التعددية الثقافية الجدد، والمنعكسة سياسياً على مشهد الصراع الحزبي، الذي وصل حد التناحر في شوارع أميركا بالعنف والقوة حول عدة نقاط، نشير إليها في حدود ما تسمح به المساحة هنا:
أولاً: أميركا مكونة من عدد كبير من الجماعات العرقية، ومعنى ذلك أن سيادة وريادة الرجل الأبيض لا ينبغي لها أن تدوم، أو أن يظل هو صاحب السلطة والصولجان.
ثانياً: إن كل جماعة من تلك الجماعات العرقية لها خصوصيتها الثقافية المتميزة، التي لابد من الحفاظ عليها، والتحذير من الانسلاخ عنها.
ثالثاً: النخبة الإنجليزية البيضاء المسيطرة على المجتمع الأميركي احتوت هذه الثقافات، وأجبرت أو أقنعت أولئك الذين ينتمون إلى جماعات إثنية أو عرقية أخرى بقبول ثقافة النخبة، وهي الثقافة الإنجليزية البروتستانتية، وهذا أمر قد لا يستقيم على مدى الأجيال القائمة وكذلك القادمة.
رابعاً: تقتضي العدالة والمساواة وحقوق الأقليات أن تتحرر هذه الثقافات المكبوتة، وأن تشجع الحكومات والمؤسسات الخاصة وتؤيد إعادة إحيائها.

الأحادية والتعددية
والسؤال: ما هي خلاصة وجهة النظر هذه لأتباع التعددية الثقافية، وما موقف الرجل الأبيض منها على وجه التحديد؟
للمرء أن يستنتج ما يريده هؤلاء، وهو أن أميركا ليست، ولا يجب أن تكون مجتمعاً ذا ثقافة قومية أحادية، واحدة، بل يجب أن تضحى الثقافة الأميركية تعددية، فسيفساء أو صلصة عادية، أو حتى صلصة ممزوجة بالزيت والخل والليمون!

«المعضلة الأميركية»
ومرة أخرى: من أين نشأت فكرة التعددية الثقافية، ولماذا تلقى رواجاً في العقود الأخيرة؟
الجواب يعود بنا إلى البروفيسور السويدي الشهير «كارل غونار ميردال»، الاقتصادي والسوسيولوجي، الحائز على جائزة نوبل عام 1974، والذي يجذر الإشكالية من خلال العودة إلى ما وصفنا به أميركا كثيراً وطويلاً، أي فكرة تكافؤ الأضداد في الروح الأميركية الواحدة.  يقول ميردال في كتابه الشهير «المعضلة الأميركية»
American dileama: إن جوهر العقيدة الأميركية يتضمن المثل العليا للكرامة الأساسية للكائن الإنساني الفرد، والمساواة الحقيقية لكل البشر، وحقوقاً معينة، خاصة الحرية، والعدالة، وتكافؤ الفرص، وكلها لا يمكن التفريط فيها.

خلخلة الهوية 
غير أن واقع تاريخ أميركا الطويل يكشف لنا كيف أن المؤسسات والممارسات السياسية والاجتماعية الأميركية، لم تستطع أن تحقق هذه الأهداف، وأحياناً وجد بعض الأميركيين أن هذه الفجوة لا يمكن احتمالها، وقاموا بحركات تميل إلى الإصلاح المجتمعي الذي يؤثر على فكرة الهوية القومية ويخلخلها. 

شقاق مصيري
ولكن، ماذا يعني ذلك اليوم في الشارع الأميركي؟ بوضوح يبدو الأميركيون أمام فعل انقسام كبير وخطير، ما بين هوية قومية لجماعة «الواسب»، أي البيض الأنجلوساكسون البروتستانت من ناحية، والهويات العرقية المتعددة من ناحية أخرى.
وهذا الشقاق مصيري ومخيف، ولاسيما أن الرجل الأبيض بدأ يستشعر أنه سيصبح أقلية عما قريب، ومن هنا يظهر التيار اليميني الأميركي، في مقابل اليسار الراديكالي الديمقراطي، وهذه قصة أخرى لنا معها عودة بإذن الله.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©