الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

المليحي والتموجات الخطية واللونية

المليحي مع أحد أعماله (الصور أرشيفية)
12 نوفمبر 2020 01:28

تعد تجليات الأشكال الهندسية في الفن الإسلامي، من أهم المراجع التي اعتمدها الفنان التشكيلي المغربي محمد المليحي (1936 - 2020) في أعماله الفنية، حيث احتشدت أعماله بالأشكال الهندسية المستوحاة من الفنون الإسلامية، وأيضاً اغترف من المدارس التجريدية الغربية، ووظف الألوان الحارة والباردة، فجاءت أعماله مطبوعة بطابع روحي وصوفي، فشكل بذلك منجزاً بصرياً حاول من خلاله التعبير عن رؤاه، وعن خصوصية التشكيل الذي يعتمد العلامة الخطية، فكان ذلك طريقه السالك إلى العالمية، وأيضاً وسيلته المثلى للحفاظ على هوية الفن المغربي والعربي المعاصر، فكيف استطاع تحقيق ذلك؟

يختفي الحرف بشكلانيته المتعارف عليها عند الفنان المغربي محمد المليحي، ويعوض بتجارب تجريدية تمارس عليه لتستقطر جماليته وتندغم في انسيابية مؤكدة، حيث المزاوجة بين الخط والتجريدية الغنائية التي أساسها الخط واللون، فالألوان والخطوط تتفاعل مع بعضها بعضاً، لخلق حركة إيقاعية على سطح اللوحة، فتدرك العين تلك الحركة من خلال تتابع وتداخل الخطوط والأشكال، فتمنحها إيقاعاً صادراً عن حركة زمنية تترجم الاستمرارية والديمومة لهذه الخطوط التي توحي بحركة لا نهائية كما هي حركة الكون.
وقد اعتبر الناقد الفني الأوروبي بيير ريستاني أن الكتابة الحركية عند المليحي: «لا تبلغ أبداً الدقة الدلالية للكتابة المقدسة، فهي تستمد عادتها من خزان الغرائز الانفعالية التي تخلق حالات روحية، وليس لحظات معرفة، أو لحظات صلاة، إن المليحي بهذا التباين، لا يريد استخدام حريته الشكلية للتطاول على المجال الحركي للكتابة، وتبقى لغته راسخة في مرجعياته المباشرة والبسيطة بشكل قطعي: إن الدورة الكونية للطاقة المرموزة بالموجة البحرية تنعكس على وضعية وجودية ملونة، فاللون يطبع هذا اللقاء الحسي بين الموجة والضوء، بين البحر والرمل والشمس. إن هذه القدرة في التأليف، هي الخاصية الأساسية للفنان وعمله... فيتقمص تلك الطاقة التي التقط انعكاساتها اللامعة في تصويره».
وعليه فإن المليحي يحافظ على الموروث ويتجاوزه للانفتاح على العصر، فتموجاته الخطية تترجم رؤيته للعالم، فالموجة عنده حسب الناقدة فاتن صفي الدين: «شكل تجريدي ذو دلالات رمزية... تتلخص في خلاصة رؤى الفنان للعالم، فالموجة عند المليحي هي البحر، هي الطفولة... الموجة هي السفر والعودة، هي الشهوة والمرأة، هي الحياة... هي الإيقاع والنظم».

إيهام شعري بصري
وبذلك فإن المليحي يوحي بما هو روحي وحسي، حيث التوافقات اللونية والخطية تطبعها حركية نابعة من الطبيعة المغربية وبالخصوص أمواج البحر، ومن الموروث التراثي الذي يتجاوزه ليخلق من خلال الألوان الفاقعة والصافية تموجات وخطوطاً يترجمها لإيهام بصري يولد حركة شاعرية مصدرها الوحدات المتموجة، الشيء الذي يؤدي للانفعال الجمالي لدى المتلقي.
إن الأولوية عند المليحي تبقى للعلامة الخطية، فنجد تموج الخطوط في منجزه البصري، هذا التموج المتحقق عبر ثنائية الخط واللون ضمن رؤية معاصرة، فيغيَب الحرف ويستحضر روحه الجمالية وقداسته، فيتولد عنه شكل كامل وتتخلق عنه أيضاً حركة بصرية، فتتناسل المفردات الزخرفية من بعضها بعضاً، ضمن مبدأ محدد، فيكتمل التوافق والتكرار لهذه الأشكال التي وزعها الفنان على سطح عمله الفني إلى أجزاء متشابهة ومتناظرة، الشيء الذي يضفى عليه إيقاعاً موسيقياً وهندسياً. وتبنّي العلامة الخطية لدى المليحي ليس اعتباطياً، وإنما له هدف جمالي حيث أخضعه لرؤيته، وهذا ما سبق إلى توضيحه، محيي الدين بن عربي في كتابه «إنشاء الدوائر» قائلاً: «إذ إن المعنى إذا أدخل في قالب الصورة والشكل تعشّق به الحس وصار له فرجة يتفرج عليها ويتنزّه فيها فيؤديه ذلك إلى تحقيق ما نصب له ذلك الشكل وجسدت له تلك الصورة». 
والحرف عند المليحي حسب بلند الحيدري: «ليس بأكثر من اقتباسات شكلية كما تقول عنه توني مارتيني، وذلك لخلق انسجام فني مقبول بين الخط العربي، والأشكال المضادة كلياً للخط المستخدم»، وبناء على ذلك، فإن تجربته تقوم على الاختزال، هذه الاختزالية التي يترجمها من خلال تبنيه لعدد قليل من الأشكال والخطوط الهندسية البسيطة، والتي تشكل أعماله، وتقوم هذه الأشكال على تموُّج الخط.

  • من أعمال محمد المليحي
    من أعمال محمد المليحي

التجريد الهندسي 
يصنف المنجز البصري لمحمد المليحي ضمن التجريد الهندسي، فهو يزاوج بين التموج والأشكال الهندسية، ضمن ثنائية الضوء المشع والألوان الصاخبة والغامقة، وفي استثماره للأشكال الهندسية ينزاح عن النمط الزخرفي، حيث يقارن المثلث بالمستطيل، والأفقي بالعمودي، والدوائر بالخطوط المائلة، كما يقوم بتمويج الخطوط الأفقية والعمودية، ليضحي هذا التموج سمة أعماله الأساسية.
ومن ثم فإن للفنان المليحي نمطاً صباغياً، مسطحاً، أحادي البعد، حيث نلمس تأثره بالفن الاختزالي والحركي، فتتجدد عنده الأشكال في تناسق وانتظام، جاعلاً للون سلطة في مخاطبة العين، ومن ثم تتكون مفردات لوحاته الجمالية من خطوط وأشكال متموجة حيث تتراص، متجاورة ومتماسكة، تتشكل من خطوط ومساحات لونية هندسية، فيترجمها لألوان صاخبة وحرة، يستدعي فهمها النبش في دلالات الألوان، فخطوطه الهندسية حسب الناقد اللبناني أسعد عرابي: «تعكس طبائع نبضاته... حتى لتبدو وكأنها هندسة الروح رغم أنها أنجزت بالمسطرة والفرجار».
وتشكيلات الفنان تتسم بصرامة واضحة في تركيباته الهندسية، حيث تتحرر السطوح القابضة على كينونة البحر، وسر الجسد الأنثوي، فتموجات البحر وانحناءات وتموجات الجسد الأنثوي تنسجم مع أشكال هندسية مترجمة بألوان حارة أو باردة، حيث التموج الملتهب للخطوط يحيل على فضاء أنثوي يتموج في سحر غامض، أما الأزرق بتدرجاته فإنه يحيل على الموجة والبحر، ولذلك توحي الخطوط المتموجة، كحركة جمالية على مسطح اللوحة بشعور يتراوح بين الحركة والسكون، ومن ثم تتشاكل الوحدات المتموجة مع هندسة الجسد، باختلاف تجلياتها الجمالية والإيقاعية، ولمليحي حسب تصريحه يتخذ من طقوسية النار والماء نموذجه البصري، هذه النار التي تحيل على الجسد الأنثوي بكل إطلاقيته وسموه.
وبذلك تكون التجربة الفنية للفنان المليحي قد حققت خصوصيتها، كما أغنت محفل التلقي، فأعماله تثير تلذذ العين ليتسرب معناها لعمق الروح، حيث تتحدد الألوان والخطوط وتتموج، الشيء الذي يمنح تجربته لمسة من التقشف والزهد، يدخلانها في عمق صوفي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©