الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عزازة القيم

عزازة القيم
5 نوفمبر 2020 01:00

فلسفة أفهوم القيمة:
إن حديث القيمٍ هو حديث عن الوجود بحد ذاته، وهي محاولة الوصول إلى الإجابة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وفي أن القيمة هي تجربة حياتية، يؤكد الفيلسوف «شيلر» أن للإنسان جانب الانفعال «العاطفة»، وفي تصوره للشخصية يعرض «شيلر» تصور الشخصية كجوهر عند السكولائيين، كما يعارض فكرة الشخصية عند «كانط» إذ يأخذ على كلا الموقفين أن تصورهما للشخصية تصور صوري أو شكلي محض، فكانط يتصورها نشاطاً عقلياً، والسكولائيون يتصورونها جوهراً عاقلاً، وبدلاً من ذلك يرى «شيلر» أن نقطة الارتكاز في مفهوم الشخصية هي الفعل، والشخصية هي وحدة الأفعال المتنوعة التي يؤديها الفرد. وهو ما يقودنا إلى حضور فلسفة القيم، وإن القيم في فلسفة «شيلر» تعطينا تجربة عاطفية قلبية، ففي التجربة المباشرة أدرك، بالوجدان، الجمال في لوحة فنية، أو السحر في شخص، أو حسن المذاق في الفاكهة، ولسنا بحاجة إلى توسط لإدراك أن سلوكاً ما هو سلوك شجاع، أو أن موقفاً يتسم بالنبل، ولكن لابد من التمييز بين هذا النوع من القيم عن تلك التجربة الحسية، من خلال كون القيمة لابد من ارتباطها بحامل يحملها: الشجاعة في الشجاع، والجمال في اللوحة، والنبل في النفس، إلخ.
 ولهذا ينبغي أن نقرر أن القيم في وجودها مستقلة عن حواملها، بمعنى أن قيمة الصداقة مثلاً لا تهدر كون صديق معلوم تبين أنه صديق زائف، أو أن الصدق يُهدر لعدم حضور القيمة عند أغلب البشر، فالقيمة توجد في ذاتها حتى لو لم تتحقق في العالم المحسوس، فتحققها إذن لا يغير شيئاً من وجودها الحق، بل يخلق قيمة جديدة هي الخير، فالعمل الفني يظل جميلاً، سواء تحقق في المرمر أو الحجر أو الفحم أو بالألوان المائية أو ظل مجرد فكرة في ضمير الفنان، ولكن الفنان يصير فاعلاً أخلاقياً بالقدر الذي به ينقل إلى الواقع المحسوس الفكرة التي تمثلها في خاطره، إنه بذلك يحقق قيمة أخلاقية، وكذلك إن كانت الممارسة الإنسانية للصدق والوفاء وغيرها من القيم تحقق قيمة أخلاقية عند ممارستها.

مرآة القيم في الحضارة: 
يعتبر سؤال القيم سؤالاً ورصداً مستمراً لمسار الحياة الإنسانية في جوهرها، ومغزى الوجود ومعنى الحياة، وتكاد تكون تساؤلات ومعضلات البشرية واحدة، وهي في كل ما تجده من انكسارات، لنجد في نهاية المطاف رجوعها إلى حضور القيمة ومدى النظرة إليها باعتبارها أهم أداة لصنع الحضارة الحقيقية، ولا يمكن أن نعدها -كما يذهب البعض- عالماً آخر، بل هو ماكث على مقربة منا وملازم لذواتنا ومرتبط بها، وهو شرط حضورنا في العالم، فكما هو حاضر في الفلسفة هو كذلك في الاجتماع والنفس والاقتصاد، وفيها جميعها نجد الفرد هو بؤرة ومركز الاهتمام، وكيف لا يكون وهو أساس ومركز الحياة والحضارة، بل هو مقياس كل الأشياء كلها! 
«إن الخير فوق الوجود شرفة وقوة»، وبقول أفلاطون نجد أن القيمة أسمى حقيقة مثالية، لأنه إدراك عقلي لها، سواء أكانت تلك القيمة أخلاقية أو قيمة جمالية أو قيمة عقلية، فكلها تميز النوع الإنساني وتحقق مطالبه وترتبط بكرامته الإنسانية. واليوم نجد أنفسنا وأكثر من أي وقت سابق بأمسِّ الحاجة لإعادة الالتفات للقيم الحقيقية أمام سيادة التقنية ومحاولتها اقتلاع الإنسان من أرضه واجتثاثه والإضرار به، لما نراه اليوم من طغيان العلوم سواء الطبية أو التقنية وعلومها أمام انفلات القيم ومن ثم جلب ويلات وخواء وغربة وعزلة للبشرية وللكون على حد سواء، لتصبح الحياة سطحية فارغة ينقصها العمق الحقيقي لمعناها وقيمتها، فأي معنى أضفناه للحياة بعد تركنا للقيم والتركيز على التقنيات والعلوم! فأصبح التواصل أكثر قرباً إلا أن القرب الروحي أكثر بعداً، وتوصلنا إلى حلول لمساعدة البشرية وتخفيف آلامها ولكن في المقابل كنا نحن سبب تلك الآلام في المقام الأول من ويلات وصراعات ومخابر تنتج هلاكاً للبشرية، فقد أثبت التقدم التكنو-علمي أن الواقع بلغ درجة من التعقيد والتشابك من المعارف العلمية غير المسبوقة التي شملت كل الجوانب، والتي يمكن أن تُخرج الإنسان إلى السقوط الأخلاقي من خلال انتهاك كرامته وسلامته وحفظ أمنه! 

الخروج من الهوة الحضارية: 
 لا سبيل لنا للخروج من الهوة الحضارية المرتقبة -وهي ليست نظرة تشاؤمية وإنما إيمان بأهمية القيم للحضارة- إلا بتكاتف القيم والعلوم لتعمل معاً لهدف سامٍ موحد، ودفع التقنية وتوجيهها وعدم المغالاة فيها لصالح غايات تخدم الوجود الإنساني، فالتشبث بالقيم مسؤولية إنسانية تقع على كل من يحب الوجود ويسعى للحفاظ عليه. ولنا في التاريخ الإنساني الحكمة اليقينية بأن الحضارات في مجملها -من الحضارة المصرية مروراً باليونانية إلى العصور الوسطى وصولاً إلى العصر الحديث- كانت ترجع دوماً لوضع قيم وتتخذ منها سلوكاً وقانوناً حياتياً ضمن لنا البقاء ما كان مقدراً لها، ومن غير العقل والمنطق أن ترجع البشرية والحضارة إلى نقطة الصفر وترمي عرض الحائط كل الدعوات والممارسات والخبرات التي ارتكزت على القيم فنالت ما تطلب من عزازة واحترام واتزانين: داخلي وخارجي، وعرفت تذوق معنى الحياة في حين كان الانفلات منها انفلاتاً عن الإنسانية، وهو السبيل الأنجع للخروج من صراع غير متوازن بين حضور القيم من خلال ما نجده اليوم من خطاب قائم على احترام الآخر واحترام ثقافته وكيانه ودينه وبين واقع رفض القيم ليتلبس العنف والأحقاد والاستعلاء وثقافة الإقصاء وفلسفة القوة، لنصل إلى جدلية حقيقية في حضور القيم وأهميتها: إلى أنها «جدلية كونية» وجب النظر إليها بعين الحكمة والتبصر والاتزان.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©