الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أيّ مستقبل للعالم بعد كورونا؟

أيّ مستقبل للعالم بعد كورونا؟
8 أكتوبر 2020 00:04

«إمّا عالم أكثر عنفاً ودول أكثر استبداديّة، أو إعادة بناء للمجتمع الإنساني بشروط إنسانيّة، تكفل له البقاء في وجه تهديدات وجوديّة كبرى، قد تجلب للأحياء أسباب فناء سريع في المستقبل المنظور»، تلك هي الخلاصة التي انتهى إليها نعوم تشومسكي، المفكّر والفيلسوف الأميركيّ الكبير، وهو يشخّص مستقبل العالم بعد أزمة كورونا. وإن لم يكن تشومسكي، البالغ اليوم حوالي 91 سنة، أهمّ فيلسوف على قيد الحياة في العالم اليوم، فهو على الأقلّ واحد من كبار فلاسفة العصر الحديث، وأحد الصنّاع البارزين لأحداث القرن العشرين، هذا فضلاً عن كونه من الروّاد المرموقين للفلسفة التّحليليّة، وأب علم اللّسانيّات الحديث، هذا فضلاً عن تمكّنه من علوم معرفيّة شتّى مثل علم التّاريخ وعلم السّياسة وغيرهما. وهو إلى جانب ذلك أيضاً شخصيّة عالميّة مرموقة في مجالات التّنظير والنّقد الفكري والسّياسي والاجتماعي، وصاحب نظريّات علميّة وأطروحات فلسفيّة، باتت في زمننا الرّاهن من أهمّ ركائز الفكر الإنسانيّ المتبصّر والمستنير.

ويظلّ اللاّفت في سيرته كمفكّر هو رفضه الثّابت، ومناهضته الشّرسة والعنيدة للحرب وللهيمنة الاستعماريّة الغربيّة.
ولتشومسكي أكثر من 120 مؤلّفاً في مختلف المجالات المعرفيّة والفكريّة، فضلاً عن آلاف المقالات والمحاضرات والمحاورات، كما أنه حاصل على عشرات الجوائز والأوسمة والشّهادات الفخريّة من مؤسّسات فكريّة وعلميّة مرموقة مثل جامعات هرفارد وكمبريدج وبنسلفانيا وبيكين، وغيرها من المؤسّسات الجامعيّة العريقة في العالم.

بناء عالم أفضل
وفي ما يخصّ الوضع العالمي الرّاهن ورؤيته المستقبليّة، يرى تشومسكي أنّ ما يواجهه العالم في ظلّ أزمة وباء كورونا المستجدّ، ليس سوى جزء من كابوس رهيب بات يهدّد في العقود البشريّة جمعاء، وبأنّه ما لم تسارع الدّول الكبرى إلى مراجعة سياساتها، وبناء أسس تضامن وثيق في ما بينها بغية بناء عالم أفضل، فلسوف تواجه لا محالة خطر الانزلاق باتّجاه وضع عالميّ تحكمه نوازع العنف والتّدمير، وتغدو فيه مفاهيم الحقّ والعدالة والدّيمقراطيّة معرّضة لخطر ماحق، هذا.. فضلاً عن العجز الذي سوف يتردّى فيه العالم على مستوى التّعامل مع خطرين وجوديّين، سيكونان الأكثر سوءاً في التّاريخ البشري، إذ لن تقف تداعيات السّياسات الرّاهنة للدّول الغربيّة على تعطيل الدّورة الاقتصادية فحسب، وإنّما سوف تهدّد بشكل جدّي المصير البشري وحضارته.
أمّا الخطر الأوّل فهو خطر اندلاع حرب نوويّة عالميّة جديدة، فيما يتمثّل الثّاني في تفاقم أزمة الاحتباس الحراري العالمي..
تهديدان قد يحيلان الأرض في المستقبل المنظور إلى ركام من خراب.

الوباء.. جرس إنذار
ومن هذا المنطلق يشدّد تشومسكي على البعد المفصلي للّحظة الرّاهنة التي يمرّ بها العالم، ليس فقط بسبب أزمة الوباء، بل لأنّ الوباء قد ساهم وسوف يساهم في زيادة الوعي الإنساني بالمخاطر الكبيرة التي تنذر بحلول الكارثة، في عالم بات مترنّحاً وبالكاد يحتمل ضغط وباء لا يزال في مراحله الأولى.
ويرى تشومسكي أنّه رغم كلّ النّتائج المروّعة لفيروس كورونا، سواء منها الحاصلة اليوم أو تلك التي ستأتي في المستقبل، فإنّ هذا الوباء يكون قد أطلق بالنّهاية جرس إنذار مبكّر للبشريّة، قد يدفع أصحاب القرار في الدّول الكبرى إلى التّفكير في عالم بديل للعالم المتأزّم والمريض الذي هو عالمنا المعاصر.

أيّ عالم نريد؟
وأمام هول المشهد يتساءل تشومسكي.. ولكن، أيّ عالم نريد؟ هل ترانا نريد الإبقاء على هذا العالم الممعن، دون رادع، في تفريخ الأزمات، أم ماذا؟ للإجابة على هذا السّؤال، يؤكّد تشومسكي ضرورة العودة إلى جذور تلك الأزمات، والوقوف عند أسبابها الهيكليّة العميقة، فيطرح تساؤلاً آخر خاصّاً بأزمة العالم الرّاهنة: لماذا توجد أصلاً أزمة كورونا؟ ويجيب: لأنّ هذه الأزمة لا تعدو كونها تعبيراً صارخاً عن الفشل الهائل لاقتصاد السّوق، والتي تترجم في المقام الأوّل أزمة أيديولوجيّة، مردّها إلى فشل المنظومة اللّيبراليّة القائمة فلسفتها الافتصادية على تعظيم الرّبح وتمجيد المنفعة! ففي ظلّ هذه المنظومة، التي تنتفي فيها كلّ الاعتبارات الأخلاقيّة، وتسير بالعالم نحو نسف أسس الحياة المتحضّرة، برزت أزمة وباء كورونا وتفشّت.

تحذيرات العلماء
وفي هذا السّياق، يذكّر تشومسكي قادة العالم «المتحضّر» بأنّه في العقود الماضية، ما انفكّت المعلومات والتحذيرات الجديّة تتوارد من قبل العلماء والمختصّين منذرة بأنّ الفيروس القادم سوف يكون من نوع كورونا، أي فيروس معدّل من فيروس سارس (الذي تمّت السّيطرة عليه قبل خمسة عشر عاماً)، ويا لغرابة المواقف التي أبداها أولئك القادة! لا أحد منهم استوقفه الإنذار، فيما كان من الممكن اتّخاذ مبادرات نوعيّة لتطوير دفاعات وأنماط علاجيّة ووقائيّة ولقاحيّة كفيلة بتدارك الأزمة ومضاعفاتها في وقت مبكّر.

لامبالاة مخجلة
أمّا المختبرات العلميّة ومراكز البحوث فحدّث ولا حرج، فقد وقفت من تلك الإنذارات موقف لامبالاة مخجلة، لأنّ الرّأسماليّة المتوحّشة، ممثّلة في النّظام النّيوليبيرالي، لا تقيم وزناً لأيّما شيء، غير الإنتاج الذي يدرّ المنفعة والربح المباشر! ذلك هو القانون الذي يحكم السّوق اليوم، وذلك هو القانون الذي يجعل من شركات الأدوية بالنّهاية، مجرّد مؤسّسات خاصّة أشبه ما تكون بالدّكتاتوريّات المحميّة من النّظام الاقتصادي القائم، والتي لا تخضع بالتّالي للمساءلة في مثل هكذا حالة.
فلا غرابة والحال تلك أن تحظى صناعة المراهم والكريمات الجلدية للوجه والجسم مثلاً بالنّصيب الأوفر من الاستثمار في مجال صناعة الأدوية، لأنّ تلك الصناعة أكثر ربحيّة من لقاحات قد تؤمّن السّلامة الجسديّة للبشر.
ويرى تشومسكي أنّه كان بالإمكان مجابهة العديد من الأزمات بمبادرات من الدّول الكبرى مباشرة، ولكن، ولنفس تلك الأسباب الأيديولوجيّة التي يقوم عليها الاقتصاد النّيوليبيرالي، فهذا التدخّل دونه محاذير وخطوط حمراء، تتمثّل في القاعدة الرأسماليّة التي يرتكز عليها ذلك الاقتصاد.. قاعدة اليد الخفيّة، أو قاعدة «دعه يعمل! دعه يمرّ!»، التي تحظر أيّ تدخّل حكومي، وتعتبر أنّ مثل هذا التدخّل في دورة الاقتصاد لا يمكن أن يكون إلاّ عائقاً لتطوّره ونمائه.

نظام عالميّ إنسانيّ
ويعني ذلك، أن تسلّم سلطة القرار بشكل كامل إلى عالم الأعمال، المكرّس فقط لتحقيق الرّبح الخاصّ، ولا مكان فيه لأولئك الذين يهتمّون بنوعيّة الحياة على الأرض وبالصّالح العامّ.
ويمعِن تشومسكي في التساؤل: هل إنّ هذا العالم قادر بمثل هذا النّظام على التّعامل مستقبلاً مع كلّ التّهديدات التي تلوح في الأفق، فضلاً عن الاستعداد لها؟ وماذا يمكن أن يكون الحلّ؟ 
لا يرى تشومسكي أنّ الحلّ هو التخلّص جذرياً من الخصائص المختلّة للنظّام الاقتصادي والاجتماعي النّيوليبيرالي برمّته، فلا يدعو إلى هدمه، أو إلى تغييره بأنظمة أخرى مثل الاشتراكية أو غيرها، وإنّما ينادي فقط بإزالة ما ينطوي عليه من معوّقات وعقبات، وإلى إرساء نظام عالميّ إنسانيّ يكون فيه مستقبل البشريّة قابلاً للبقاء.
وقد يتحقّق ذلك في نظره بتثمين آثار أزمة وباء كورونا المستجدّ، وبخلق حركة اجتماعيّة إنسانيّة عالميّة نشطة تدفع في هذا الاتجاه.

التّضامن والتّكافل 
وفي رأيه، يمكن أن تبدأ هذه العمليّة فوراً، حتّى في ظلّ إجراءات الحجر المنزلي والصحّي، وفي غمرة التّباعد الجسدي الحاصل بين ملايين البشر في البلد الواحد أو بين مليارات الأفراد عبر العالم.
ويعتبر تشومسكي أنّه قد آن الأوان اليوم للاستفادة من تكنولوجيا الإنترنت، من الهواتف الذكيّة ومواقع التواصل الاجتماعي ومن مكتسبات الثّورة المعلوماتيّة، أي من كلّ تلك الوسائل والوسائط، التي متى أحسن استخدامها، سوف تحدث كلّ الفرق، وتسهم في رصّ الصّفوف، وتعزيز أواصر التّضامن والتّكافل الاجتماعي والإنساني.
ومن شأن تلك الوسائط أن تزيد في نسق الاستقطاب والتّنسيق، وفي تعزيز التّعاون والتّشاور بين الأمم من أجل التّغيير، والحفاظ أقلّه على الدّيمقراطيّة المهدّدة اليوم بالإجراءات الاستثنائية التي تطبّقها بعض الحكومات، من إغلاق لمناطق وحدود، سواء بقرارات فرض حالة الطّوارئ وحظر التّجوال، أو بإنزال الجيش إلى الشّوارع في عديد الدّول، أو باتّخاذ قرارات ميدانيّة تعسّفيّة تقلّص من الحريّات المدنيّة.
لأنّ مثل هذه الإجراءات وغيرها، يمكن أن تتسبّب في تدهور الحريّات وفي تغذية نزعة الاستبداد في بعض بقاع العالم، خصوصاً إذا ما اعتبرنا ما هو متوقّع من انهيار محتمل للنّظام الاقتصادي العالمي.

عالم جديد
ويلمّح تشومسكي في هذا الصّدد إلى أنّ بعض الحكومات قد تجد في هذا الوباء فرصة سانحة للتعسّف والتّضييق على الحريّات، ولذا.. يبدي مخاوفه من أن تتحوّل مثل تلك الإجراءات الاستثنائية إلى إجراءات دائمة. ومن ثمّة يخلص تشومسكي إلى رؤية تضع العالم أمام خيارين: إمّا أن نقبل بعالم يسوده استبداد معمّم وتغدو فيه الأنظمة أكثر ديكتاتوريّة، وإمّا أن نعود إلى المفاهيم والقيم الإنسانيّة، أي تلك المعنيّة بالاستجابة للاحتياجات البشريّة الحيويّة.
ولذا يتوجّب من منظور تشومسكي إعادة بناء عالم جديد على حطام الأزمة التي سيخلّفها وباء كورونا، حتّى يكون بالإمكان بناء عالم قابل للحياة والبقاء وقادر على مواجهة الأزمات.
وفي هذا الصّدد، يوجّه تشومسكي رسالة إلى ساسة العالم الغربي، يدعوهم فيها إلى استخلاص العبرة من أزمة كورونا وتداعياتها، وإلى استيعاب المتغيّرات الطّارئة على حركة التّاريخ، ويلفت الانتباه إلى أنّهم باتوا بحاجة ماسّة إلى إبداء ما يكفي من الإرادة والعزم والتّصميم لتخطّي هذه الأزمة، وتوفير الشّروط التي بدونها قد لا تتوفّر للبشريّة أسباب البقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©