الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

اقتناص باريس

اقتناص باريس
30 سبتمبر 2020 21:33

عشرات بل مئات من الحركات المتوازية بدقة، أحداث متناهية الصغر، تتولد من أكثر التحركات والمواقف ضرورية وعفوية في الوقت ذاته، ولكنها تحمل في داخلها ذلك المعنى الخاص بالطاقة الهائلة المتدفقة والمُسْتَهلَكة والمُستَهلِكة معاً:  محادثة بين شخصين، ثلاثة، عدة أشخاص، حركات الشفاه، الإيماءات المعبرة عن الحيوية، العربات ثنائية العجلات من دون محرك، السيارات الخاصة، سيارات الشركات الأخرى، المواصلات العامة، الأفعال اليومية للعموم التي تعبر عنها حقيبة تسوق، المشي السريع، الركض باتجاه وجهة كعربة أجرة فارغة، على سبيل المثال، التردد، الجلوس (في الباصات، السيارات، المقاهي) الوقوف (في الشوارع قرب الكنائس بعد الطقوس أو بمحاذاة سيارة أجرة أثناء محاسبتها).

 في كتابه «محاولة اقتناص المكان في باريس»، يقدم الفرنسي «جورج بيريك» شكلاً جديداً من أشكال الكتابة اليومية، هو الذي لا يفعل شيئاً سوى محاولة الإمساك بالمكان واللحظة الخاطفة، من خلال عدة زوايا في مدينة باريس 1974، يترصد فيها الصغير المهمل، بالمعنى الحرفي للهامش، فهو يدوّن تلك التفاصيل كما ترصدها العين، دون محاولة تأطيرها داخل المجاز أو التجربة الخاصة، عدا ما يذكره «بيريك» سريعاً وبتفسيرات هامشية ونادرة، في محاولة لتوثيق جميع ما قد تكون تجاهلته الكاميرات الفوتوغرافية أو المشاهد السينمائية للأفلام، التي جعلت ما حول ميدان «القديس سوبليس» والكاتدرائية والمقاهي المحيطة خلفيات لحدث رئيسي، ولكن ماذا لو كان الحدث الرئيسي هو خلفية تلك الأحداث الكبرى، وما الذي قد يحدث عندما لا يحدث شيء فعلياً؟ سؤال عبثي ومثير ينطلق منه «بيريك» الراصد.

ذاتية «النائم»
قراءتي الأولى لبيريك كانت «النائم»، الرواية التي ينسلخ بطلها عن المحيط الإنساني العام، نحو ذاته الخاصة، ليذهب في تجوال يومي عبثي حر متواصل، معيداً الجدوى إلى التفاصيل الهامشية، منسلخاً في قلقه الوجودي عن العلاقات المفروضة قسراً، نظراً لواقع الحياة الاجتماعية في باريس الخمسينيات والستينيات الميلادية، ولعلي لم أستطع ألا أتقاطع معها هنا في فعل «بيريك» الذي يخرج من خلال ثلاثة أيام، هي البعد الزمني للكتاب في رحلة من الصمت والملاحظة واللامبالاة، متفاعلاً مع الهامش والآخر كظل فقط، يدوّن الأحداث دون رأي واضح، رغم أنه في أشد حالات يقظته للتفاصيل متناهية الصغر، مما يجعلك تتخيل أن روح بطل «النائم» تعود بعد سنوات من الرواية لتتلبس «بيريك»، المؤكد لفكرة النائم الذي يكاد يعيش فينا جميعاً، منتظراً بصبرٍ وتوثب لحظة التخلي الكبرى عن القسريات. 
الدائرة الكونية
لا يغفل «بيريك» في تدوينه للحركات من حوله وهو يتموضع في أحد المقاهي حول الميدان الشهير، أن يذكر حتى أرقام حافلات النقل العام المارة، تلك التي تتكرر برتابة، ويفلسف ذلك عرضاً بأن لميكانيكية تلك الأشياء ما يضفي على المكان التجرد الأول من العفوية، التوقع الذي يبدأ من هنا، وقد يلقي بظلاله على المحيط العام، فهو في ذات الموضع يسأل نفسه عن الطيور التي تستمر في حركة متكررة دائرية حول الميدان، تلك الحمائم التي لا يبدو أنها تفعل ذلك لغرض معين، عدا ميكانيكية الحركة في مشهد الرتابة الضروري، كانسجام بين ما تصنعه الطبيعة وما يصنعه البشر في المدن الجديدة، المدن التي تخلق نمطاً متكرراً مؤكداً لفكرة الدائرة الكونية، حيث ما ينتهي يعود ليبدأ ويتكرر وهكذا. 

الشعور بالألفة
في موضع مهم آخر، يشدد «بيريك» على وصف موضع قرب الميدان، يؤكد أنه سيكون مطابقاً لزاوية في مدينة «فيينا» العاصمة النمساوية رغم أنه لم يزرها، يكتفي بذلك، ماضياً إلى تدوين حركة المكان، ولكنه يجعلك تفكر في مدى تشابه المدن الأوروبية في طابع ما بعد الحربين العالميتين، التي قام أغلبها من الرماد، ليحاكي في طابعه العام ما قد نجا من الدمار نسبياً، فـ«فيينا» من المدن التي تمت محاكاتها، وهو ما سيورثك حتماً، أنت زائر اليوم لعواصم أوروبا، ذلك الشعور الرتيب أحياناً بالألفة، والذي سيصعب عليك الوصول إلى روح المدينة الأصيل، المدينة قبل الهدم والحرق، ومحاولات الاستنساخ الترميمية. 

عالم ما بعد الجائحة
سؤال جديد آخر قد يلح ببالك وأنت تتأمل الملاحظات الكثيفة، وهو إلى أي مدى قد تتشابه «باريس» السبعينيات الميلادية وباريس الألفية اليوم، هل بقي المكان هو المكان؟ هل هناك تواصل بشري مباشر، أم أن الجميع أضحى يسير متواصلاً في حركاته وإيماءاته مع أجهزة متناهية الصغر في أياديهم؟ الأجهزة الهامشية في ظاهرها التي أضحت تختزل في مكونها المعنى الأكبر لكل ما يحدث حول العالم، هل بقيت الطقوس والأيام في تكرارها النمطي للهامش كحركة الطيور والحافلات؟ ماذا عن عالم ما بعد الجائحة الجديدة، الذي كان حتماً ليكون جديراً بالملاحظة؟، كلها تفاصيل تجعلك تشعر أنت الذي تعثرت بما يشبه دفتر ملاحظات بيريك الصغير والسري والبسيط في الوقت نفسه، بأنك قد تنطلق في مغامرة لطيفة إلى «باريس» قاصداً نفس المواضع، لتقتنص بدورك «باريس» التحولات والهامش. 

الكتاب: «محاولة اقتناص مكان في باريس» - جورج بيريك - الطبعة الأولى بالفرنسية 1975م - الطبعة الإنجليزية لمترجمها مارك لوينثال عن وكيفيلد للنشر 2010م

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©