الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عذراء السينما الأبدية

عذراء السينما الأبدية
30 سبتمبر 2020 21:26

-أنا لا أريد الزواج.. أريد البقاء معك يا أبي، الزواج لن يجعلني أسعد أبداً.
- غير صحيح.
- لا، إنه كذلك يا أبي، لا يهمني إن كنت ستتزوج مرة أخرى، أريد أن أبقى معك...
 هذا الحوار من أجمل مشاهد فيلمها «الربيع المتأخر»، قدمت فيه دورها الخالد «نُوريكو»، عن الفتاة غير المتزوجة الطيبة، المُحبة لحد التفاني لأسرتها وتقاليدها القديمة، وتُزين وجهها بسمة ساحرة من نبع سكينة النفس.. وفي حياتها الحقيقية أيضاً لم تتزوج الممثلة اليابانية سيتسكو هارا أبداً، رغم أنها عاشت خمساً وتسعين سنة (1920-2015)، ولهذا أطلقوا عليها وصف «العذراء الأبدية»

إنها رمز ناصع للسينما اليابانية في عصرها الفذ، وفور وفاة مخرجها «ياسوجيرو أوزو» الذي كان له الدور البارز في استخراج أفضل التعبير السينمائي المنضبط والحساس من بطلته الأثيرة، عندما قدمها في ستة أفلام، وأهمها شخصية «نُوريكو» في ثلاثيته الشهيرة (الربيع المتأخر- 1949)، (الصيف المبكر- 1951)، (قصة طوكيو- 1953)، فتركت مبدعتنا بعد وفاته كل الأضواء، في صمت تام، ولم يرها أحد لمدة نصف قرن، حتى رحيلها، إذ كانت تقيم في بيتها بمدينة «كاموكارا» القريبة من مقبرته، حيث تربطها به علاقة روحية -كما يُقال- بالرغم أنها لم تنبس بحرف واحد للصحافة، فأضفى صمتها غموضاً مثيراً حول شخصيتها، ورَسَم ما يشبه هالة من القداسة حول حياتها. ومما يُذكر أن للصحفية إيشي تايكو -مؤخراً- كتابات اجتهادية تخرق بها النمط المألوف في مخيلة الناس عن شخصية نجمتها، تذكر فيها عنها ميلها للأدوار القوية المتمردة، مثل أدوار إنجريد برجمان، وأنها كانت معجبة بالنمط الثقافي الغربي، نوعاً ما.

المسيرة المهنية
دخلت «سيتسكو هارا» استوديوهات السينما «نيكاتسو» في سن الخامسة عشرة، وكان مرشدها الأول هو صهرها المخرج «هيساتورا كوماجي»، فبدأت بأدوار صغيرة، حتى أتيحت لها الفرصة في فيلم ألماني ياباني مشترك «العالم الجديد- 1937»، أراد الجانب الياباني أن يهدي البطولة لغيرها، ولكن المخرج الألماني لمح جاذبية نظرة وابتسامة الممثلة الناشئة، وأصر أن تكون هي بطلة فيلمه، وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً، مما جعل بطلتنا تسافر بعدها في عدة جولات، لهوليوود، وألمانيا، وباريس. 
وفي عام 1946 جاء المخرج الأشهر «أكيرا كيروساوا» بفيلمه «لا ندم على شبابنا»، لتؤدي فيه دور امرأة متمردة، تجتهد لتغيير أوضاع المرأة المهينة في مجتمعها، وتعاني من قمع الحكم العسكري ضدها في الثلاثينيات، ومع نفس المخرج اختار لها دوراً في فيلمه عن رواية ديستوفسكي «الأبله -1951»، تجسد فيه شخصية امرأة قوية تستغل فتنة أنوثتها، مع ارتدائها عباءة سوداء تغطي كل جسدها، طوال جميع مشاهد الفيلم، فكانت المرة الوحيدة التي يرى فيها الجمهور نجمته في هذا الدور المختلف تماماً، ولكن سقوط الفيلم المدوي جعل كيروساوا يحجم عن طلبها مرة أخرى. بينما في المقابل ظهر أحد أقطاب المربع الذهبي للسينما اليابانية آنذاك، مع المخرجين (كيروساوا، أوزو، ميزوجوتشي)، وهو المخرج ميكيو ناروسي الذي صاغ شخصية بطلته بوجه حزين عابس في عدة أفلام، حيث تعاني من خيبات زواجها، كما في «وجبة الطعام - 1951»، إلى أن أخذ المخرج «أوزو» بيد نجمته، لينحت من موهبتها التمثيلية، شخصية «نوريكو». فأوزو كان له منهج مختلف عن بقية المخرجين، فهو كما أشار في مذكراته، يرى أن أصعب الأدوار للممثلة هو شخصية المرأة العادية وسط أسرتها بالمنزل، ومن المعروف عن مخرجنا أنه يقوم بعمل بروفات كثيرة للممثلين، وقد تصل إعادة تصوير لقطاته لأكثر من 12 مرة، لجعل الممثلين في أصدق إحساس داخلي، وأداء سينمائي لا تشعر معه بغربة، ولا تلحظ فيه «كليشيهات» التمثيل المسرحية، أو الأداء الميلودرامي الفاقع، وبالفعل نجح في أن يجعل بطلته (هارا) تعبر عن مشاعر الشخصية بوجهها، دون تزيُّد، أو فتور، بحسب الحالات الشعورية المتباينة، وتشرق من صفاء قلبها ببسمتها الشهيرة، فتشع دفئاً في قلوب المشاهدين.

انبهار الغرب
 عرف الغرب متأخراً في السبعينيات أعمال أوزو، فانتبه لبطلته، ولحظ نظرتها المكسورة الخفية وهي تبتعد عن بيت أبيها، أو عندما تبتسم برضا وديع، في نفس اللحظة الشعورية التي تقول فيها:
 -الحياة بالفعل.. محبطة!!
وكذلك لا ينسى محبوها وهي تهل بملامح الأمل الباسم فوق الدراجة عند شاطئ البحر بفيلم «الصيف المبكر»، من خلال «لقطة مكبرة» تفتح مسام الرؤية لكل تفصيلات ملامحها الجوانية على وجهها الطيع، كأنما تشي لمشاعرنا بمتعة الإقبال على الحياة، إلى غير ذلك من مشاهد كثيرة قدمتها سيتسكو هارا بتلقائية مدهشة.
 وتبقى مُبدعتنا حلماً، وطاقة روحية لعشاق فنها حتى الآن، للدرجة التي قرر فيها ديك كافيت -أشهر مذيع تليفزيوني بأميركا طوال خمسة عقود- السفر ملايين الأميال، لزيارة بيت نجمته، حتى وصل لمدينتها البعيدة، فوضع باقة زهور على سلم بيتها، ودق الجرس، ثم رحل، بعدما لم يرض أن يخدش خصوصية حياتها، في أخريات عمرها.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©