الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الفن ضد العنف

الفن ضد العنف
24 سبتمبر 2020 00:58

في فيلم «ألعاب مسلية» Funny Games (1997)، للمخرج ميكايل هانيكه نرى شابين (بول وبيتر) نمساويين، يدلّ مظهرهما وسلوكهما على التهذيب والرزانة والدماثة والكياسة، ولكن يتضح أن هذه الصفات مجرد أقنعة، تخفي نزوعاً ماكراً ونوايا إجرامية عنيفة، لوحشين ضاريين، مضطربين عقلياً، يكمنان في الداخل، وينتظران الفرصة السانحة للكشف عن هويتهما الحقيقية: قاتلان يرتكبان الجرائم بدم بارد، بلا مبرّر، ومن أجل المتعة فقط!

بطريقة مهذبة وماكرة ينسلّان داخل بيت عائلة ألمانية صغيرة، ثرية، مؤلفة من زوج وزوجة وابنهما الصغير.. انتقلوا لتوهم إلى البلدة النمساوية لقضاء الإجازة الصيفية، الشابان يفرضان نفسيهما تدريجياً على العائلة، حتى يتخذا منهم رهائن ويبدآن، على نحو نظامي، في ممارسة الإرهاب العنيف والإذلال والتعذيب الجسدي والنفسي. 
إنهما يجبران أفراد العائلة على المشاركة في ألعاب «مسلية»، حسب ادعائهما، ولكنها في حقيقتها ألعاب منحرفة وشيطانية، ألعاب سادية، خطيرة، ومهددة، ويراهن بول الجمهور، فيما يخاطب الكاميرا والابتسامة الودودة مرتسمة على وجهه، أنه سيهزم الثلاثة خلال الـ12 ساعة القادمة.. أي يفنيهم صباح اليوم التالي! 
وهكذا يشرعان أولاً في قتل كلب العائلة، ثم بمضرب الغولف نفسه يحطمان ركبة الزوج، وبعدئذ يرغمان الزوجة على التعري لإنقاذ ابنها من التعذيب أو القتل! الزوجان يجدان نفسيهما في وضع كابوسي مرعب، لأنهما لا يستطيعان حماية ابنهما ولا النجاة بنفسيهما. وبهذه الطريقة، تصبح العائلة مرغمة على المشاركة في لعبة غير مسلية تماماً، لعبة لا تريدها ولا تستطيع فهمها، وهي تنتهي بموت أفرادها جميعاً.
أما القاتلان فيفلتان من العقاب، فلا يكونان هدفاً لملاحقة العدالة، كما يحدث غالباً في أفلام النوع الإثاري العنيف ضمن الاتجاه التقليدي السائد، خصوصاً في السينما الأميركية، بل يستمران في ارتكاب المزيد من الجرائم.. بكثير من الجذل والتسلية والمتعة!

مغايرة العنف السائد
في هذا الفيلم، الكاميرا تتجنب إظهار العنف الصريح، وتلجأ إلى التلميح، بحيث يتخلّق العنف في ذهن المتفرج، والبؤرة هنا ليست مركزة على الحدث، بل على نتائج الحدث، والآلام التي يعانيها ضحايا العنف تنعكس على تعابير الوجه، الإيماءات، ردود الفعل، فالفيلم لا يريد أن يظهر العنف في صورة فاتنة أو مدغدغة للغرائز! وهذا ملمح آخر للمغايرة مع أفلام العنف السائدة، هذا إضافة إلى ابتعاد الفيلم عن الحلول المألوفة التي توفرها تلك الأفلام لطمأنة جمهورها بالتوكيد على انتصار الخير، كما أن هانيكه يبني عناصر التوتر والإثارة، ويجعلها في حالة تصاعد حتى يضاعف من حالة الترقب والتوتر لدى المتفرج، ثم فجأة يهدم كل هذه العناصر، ويوقظ المتفرج على حقيقة أنه يشاهد فيلماً مركباً لغرض التلاعب به، بمشاعره وتوقعاته.

  • المخرج ميكايل هانيكه
    المخرج ميكايل هانيكه

تجربة صادمة
إنها تجربة سينمائية صادمة، غير مريحة، توجه نقداً لمفهوم الترفيه في الميديا الجماهيرية والسينما السائدة بشكل عام، حيث استغلال العنف المفرط كسلعة ترفيهية رائجة، وذلك بجعل أفعال العنف حسيّة، خفيفة، مثيرة، ظريفة، والفيلم يستجوب استخدام العنف كعنصر سردي بارز، وهو يدعو جمهوره إلى اتباع التفكير النقدي، ويحثهم على استنطاق، وربما إعادة تحديد، علاقتهم بالعنف المصور في وسائط التواصل.
والحال أن هانيكه يحذّر من الصورة المشوّهة أو المحرّفة التي تقدمها الميديا عن العالم، فالميديا لا تعكس الواقع ولا تصفه بل تعيد خلقه على الصورة التي يناسبها، معتمدة على التبسيط والتعميم.
والرعب الذي يُظهره الفيلم مبني على حقيقة أن الأوضاع والحالات التي يواجهها أفراد العائلة مخيفة وفي الوقت ذاته عبثية وغير منطقية، ولا مبرّر لها، إنها منافية لكل معايير السلوك المعقول، وليست ناشئة نتيجة أي باعث نفسي أو تفسير منطقي. 
 إنه عنف مجاني، جنوني، تصعب مقاومته ويتعذر تجنبه، وأمامه يقف المرء حائراً وعاجزاً، بلا حول ولا حماية، في حين نجد أن الجناة في حالة هدوء، ومرح، وتوازن.. وهي صفات تتناقض مع السلوك القاسي، العنيف، البدائي، فالقتل بالنسبة لهما فعل ترفيهي، مسلٍّ، وطبيعي!
إن الفيلم يدمج عناصر من التغريب البريشتي (قطع الخيط التسلسلي ومخاطبة الجمهور) مع العناصر التي تشجع على التطابق مع الشخصيات والتعاطف معها، وهي محاولة فعالة لإشراك المتفرج في الحدث واتخاذ موقف ما، إنه يريد أن يستفز المتفرج، يثير قلقه، ويرغمه على التفاعل.
وبما أن أغلب مظاهر العنف تحدث خارج الشاشة، فإن المتفرج يجد نفسه محروماً من إبداء ردود فعل معيّنة تجاه أفعال العنف، وكل ما عليه أن يفعله هو رصد ما يحدث فحسب. 

غريزة الخوف
على نحو متعمّد، يرفض الفيلم أن يقدّمتفسيرات وتبريرات، أو أن يوضح دوافع وبواعث الشابين في القتل، وثمة إيحاء بأنهما يرتكبان هذا الإرهاب والقتل لغرض وحيد هو امتحان غريزة الخوف عند الإنسان ومشاعر الألم في درجته القصوى.
في العام 2007، قدّم هانيكة النسخة الأميركية من فيلم «ألعاب مسليّة»، وهي إعادة حرفية تقريباً للفيلم السابق الذي يحمل العنوان نفسه، ولكن هذه المرة باللغة الإنجليزية وفي مواقع أميركية مع نجوم من السينما هناك، في حين حافظ على مجريات السيناريو حرفياً من حبكة وحوارات، وحتى تكوين اللقطات وزوايا الكاميرا وطول أو أمد اللقطات.. فبدا متطابقاً تماماً مع الأصل.
وعندما سئل هانيكه عن سبب إعادة تحقيق الفيلم، أجاب بأن النسخة الأولى، الأصلية، كانت ردة فعل على نوع معيّـنمن السينما الأميركية العنيفة، التي تستخدم مشاهد من التعذيب الوحشي كوسيلة لغرض الترفيه عن الجمهور الأميركي، الذي يستجيب بحماس لهذا النوع من الوحشية، ولكن نظراً لكونه فيلماً مصنوعاً بلغة أجنبية، فإنه لم يصل أبداً إلى الجمهور الأميركي العريض. 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©